أنوار جامعية نيوز / سليم مصطفى بودبوس

مهلاً صديقي لا يذهبنّ بك الظنّ، بمجرّد قراءة العنوان، أنّي أقصدك أنت، أو كلّ من يحمل نظارة وأنا أوّلهم طبعًا!. مهلاً! مهلاً! ولا تكن صارما حازمًا في الحُكم عليّ؛ فلقد سئمتُما تطفحُ به من أخبارالقتل والمؤامرات والكدر،وقرّرت أن أزور أيّام «أبو نظّارة»، و«أبو صفار» و«أبو نظّارة زرقا»و«أبو زمّارة» أيّام الصحافة العربية الهزلية؛ فلقد اشتاقت نفسي إلى مشهد إعلامي مختلف.
اهتمّت الصحافة العربية منذ نشأتها في القرن 19م بالأخبار تنشرُها، وبالقضايا الأدبية والاجتماعية تحلُّلها في مقالات جادة رصينة محافظة، ثمّ جاء جيل من المبدعين في مطلع القرن العشرين انزاحت معهم الصحافة نسبيّا عن هذا التوجّه، وأبدع زمرةٌ من الأدباء والصحفيّين في إنتاج ما اصطلح عليه بالصحافة الساخرة.
وللأدب الساخر في تراثنا أصول عريقة؛ إذْ لا تفوتك (مقامات الحريري) ولا (مقامات الهمذاني) ولا (بخلاء) الجاحظ… ومن هذه المتون استقى ثلّة من أدبائنا في القرن العشرين على غرار محمد المويلحي في كتابه (حديث عيسى بن هشام) ومن بعده توفيق الحكيم ثم إيميل حبيبي في روايته الرائعة (المتشائل).
ولم تتأخّر الصحافة العربية الساخرة أو الهزلية طويلاً فها هو يعقوب صنّوع في مصر يدشّنها قبل أن ندشّن القرن العشرين، فكانت فاتحة الصحف الهزلية (أبو نظارة) تحت شعار «مُسلّيات ومضحكات» وانطلق معها تيار صحفيّ مهمّ لطالما خشيه المحافظون من رجال العلم (الدين) ومن رجال الحكم (الساسة). وقد توالت محاولات صنّوع مستعملاً الفصحى حينًا والعامية الدارجة حينا آخر، ثم أصدر صحيفة (أبو نظارة زرقا) بعد إيقاف الأولى ثم (أبو صفارة) فـ (أبو زمارة).. ليكون صنوع بذلك رائدًا لهذا النوع من الصحافة دون أن يكون الوحيد؛ فقد شهدت تونس فصلاً مبكرًا من فصول الصحافة الساخرة على يد «عزوز الخياري» في صحيفته (ترويح النفوس) وكذا الأمر في العراق وسوريا ولبنان…
وقد وظّفت الصحافة الهزلية الرمز المختصر الراسخ لتناول القضايا بشكل مباشر أو غير مباشر وبلغة مفعمة بالسخرية الهادفة التي لا تتناول مسألة الإضحاك لمجرد الإضحاك. وتكون السخرية خطّا تحريريا لكامل صفحات الجريدة إخبارًا وتحليلاً وتعليقاً وتعقيبا وتقريرا ورسمًا وتصويراً…
غير أنّ هذا النوع من الصحافة، وأعني الهزلية، لم يكتب له الامتداد في الزمان، ولا الانتشار في المكان بالقدر الذي يستحق لطغيان عقلية المحافظة السياسية والدينية والأخلاقية التي لا تلتقي البتة في نظر المحافظين مع الكتابة باعتبارها رسالة جادة بل ورسمية. لذلك لم تصمد جرائد يعقوب صنوع إذْ لشدة تهكمه من الخديوي إسماعيل في مصر تمّ إيقاف صحفه أكثر من مرة، وكذا في تونس بسبب تسلط المستعمر من جهة وتواطؤ بعض المحافظين التقليديين من جهة أخرى…
فهل تجنح اليوم السلطة الرابعة صاحبة الجلالة إلى خفّة الظل والنقد الخفيف الساخر، خاصّة وقد عرفنا تحوّلا نوعيا في مجال الحريات؟ صحيح أنّ هناك تجارب على مرّ العقود الخمسة الأخيرة لكن الصحافة كباقي السلطات الأخرى ظلّت في معظمها محافظة على وقارها، ملتزمة ضرورات التحفظ.
إنّ المثل الشهير «كثر الهمّ يضحك» هو الترجمة الحرفية لواقعنا اليوم، فما يرزح تحته الإعلام اليوم من تخمة في الأخبار المحزنة والأحداث المأساوية والأزمات المتصاعدة والصراعات المتعاظمة والحروب المدمرة والفقر المدقع في العديد من دولنا العربية والإسلامية والجوع والجهل… زد على ذلك آفة الإرهاب الفتّاكة… كل ذلك وغيره جعل القراء في شوق جامح ولهفة شديدة إلى الصحافة الهزلية ينسون بها هموم الواقع؛ لذا تراهم يتسقّطون تلك الكتابات في مواقع التواصل الاجتماعي.
ولمّا كان كل ممنوع مرغوب فإنّ متصفّحي هذه الكتابات والتعليقات والمحادثات الساخرة الهزلية يزداد يوما بعد يوم، ويتحوّل كل متلقّ إلى مرسل بمجرد كبسة زرّ، فتنتشر تلك الكتابات البناءة حينا والهدّامة أحيانا كثيرة لأنها غير مؤطّرة ودون حسيب ولا رقيب؛ لذا سقط في الحضيض العديد من المجربين لهذا النوع من الكتابة.
لذا بات من الضروري توفير البيئة المناسبة لهذه الكتابات التي يتلهف القارئ إليها، ولِمَ لا، إصدار صحف ورقية وإلكترونية تحترم مبادئ هذه الكتابة الصحفية باعتبارها مدرسة لها أسسها وأصولها وأهدافها السامية حتى تكون هذه الصحف ملاذ الكتّاب والقراء الباحثين عن نوع آخر من الكتابات غير المألوفة والتي تستميل القلوب والعقول لِما لها من قوة نفاذ وجاذبية.