أنوار جامعية / د. فوزية ضيف الله
استضاف نادي قراءات وكتابات بالمركز الجامعي للفنون الدرامية والأنشطة الثقافية مساء الاربعاء 4 مارس الدكتورة والفنانة التشكيلية أحلام بوصندل، أستاذة الفنون بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس، لتقديم كتابها الذي صدر حديثا ويحمل عنوان “منوبي بوصندل”، وقد أدارت الحوار الدكتورة فوزية ضيف الله، مؤسسة النادي، وذلك بحضور مجموعة هامة من طلبة قسم الفلسفة، إدارة المركز الجامعي، ضيوف النادي، ومن بينهم الشاعرة زهرة الحواشي، وجانب هام من فنانين، ورواد نادي موزاييك الذي تديره الفنانة لطيفة بيده.
استُهلّ اللقاء بتقديم الفنان التشكيلي المرحوم منوبي بوصندل، الذي كانت سيرته الحياتية والفنية على غاية من الثراء والتنوّع.
1-من ثقافة المشافهة إلى ثقافة التدوين والكتابة:
يندرج هذا الكتاب في إطار المحاولات التونسية الجادة التي تحددت صعوبات عديدة من أجل التاريخ للفن وللفن في تونس. إذ تعد كتابات الفنانين عن تجاربهم التشكيلية نادرة جدا إن لم نقل معدومة. فقد ينشغل الفنان بفنه عن الاهتمام بالتدوين الذاتي لمسيرته الفنية، ويتغافل عن أهمية ترك أثر مكتوب، وارشيف مبوّب، وواضح، يتم تنسيقه وصياغة أبوابه بشكل دقيق. وللاسف قد تضيع لوحات هامة، وتُنسى معالم هامة من مسيرته. إننا تعودنا على ثقافة المشافهة، ولم نرسخ طلبتنا والمهتمين بتاريخ الفنون في تونس، ثقافة التدوين والكتابة. لذلك فإن مؤلف الدكتورة أحلام بوصندل، يندرج في سياق حفظ الذاكرة الفنية الوطنية اولا والعائلية ثانيا. ذلك أن فعل القرابة بالفنان (الأبوة) من شأنه أن يكون مساعدا أساسيا على فعل الكتابة. إضافة إلى أهمية العلاقة الخاصة التي كانت تربط الفنان بوصندل بابنته أحلام، فقد كانت ترافقه يوميا في ورشته، تعانق معه عشقه للألوان، وأمضت طفولتها دون أن ترتاد المحاضن، بل كانت ورشة أبيها الحضن الذي تمرغت فيه، ولعبت وسقطت، ثم نهضت تلاحظ مخاض ولادة اللوحة على يدي أبيها. ربما كان يمكن لحميمية التجربة أن تولد شعرا أو رواية أو فيلما، وهذا ما ننتظره كقراء، ولكن كانت الثمرة الأولى التي نضجت بعد هذه التجربة هو التحاق البنت أحلام بوصندل للفنون، وتمرسها بتقنيات الرسم واللون، هي في الواقع وراثة جينية قبل أن تكون وراثة شرعية أو علمية. أما الثمرة الثانية فتتمثل في هذا الكتاب الذي حبكت أبوابه بطريقة موضوعية. فنجحت الكاتبة في التخلي عن الذاتي لأجل الموضوعي، أو أنها جعلت الذاتي في خدمة الموضوعي، دون أن يقضي عليه. فباستثناء الفصل الأول الذي وضعت فيه الكاتبة شحنة من العواطف الحميمية، ترجمت فيه صعوبة الكتابة عن أبيها، بعد مرور سنوات قليلة عن وفاته، فإننا لا نلحظ سيطرة أخرى لهذا البعد الذاتي. تقول الكاتبة: ” الكتابة عنك أمر صعب، فهل لي أن أتكلم عن أثرك وأثرك يخاطبنا بلغته؟” (ص 5)
لقد نجحت أحلام بوصندل في توثيق العناصر المتناثرة من تجربة الفنان، وعادت إلى ما حافظت عليه العائلة، وأقرباء الفنان، وكذلك أصدقاؤه. كما أرادت أن تكون ملمة بكل فترات تجربته، وحاولت تقسيم الكتاب وفق مواضيع معينة، ترافقها صور لوحاته، وعناصر توثيقية تاريخية. فنقلت لنا تجربته مراوحة بين الوصف والتحليل والتوثيق.
كما أنها ارتأت تضمين نصها، شهادات لأصدقائه وهم على التوالي ” الهادي التركي، زبير التركي، فتحي الزبيدي، أحمد بن عبد الله، محمود الماجري، علي الزنايدي ومحمد المي”. و تولى الناقد والفنان علي اللواتي تقديم الكتاب بمقال عنونه “المنوبي بوصندل، رسام شاهد على الزمان وعاشق للبحر”.
تضمن الكتاب الذي صدر في طبعة أنيقة، 128 صفحة، جمعت فيها الكاتبة تجربة لا يمكن حصرها في صفحات معدودة، فمن الكتابة عنه، الى تضمين شهادات الأصدقاء والفنانين، ضمنت الكتاب لمحة ضافية ودقيقة عن مسيرة الوفق وفق ما توفر لها من بيانات ومعطيات، ومن تواريخ معارضه الفنية الفردية والجماعية، وكذلك سنوات تكريمه وحصوله على جوائز عالمية. كما وصفت ملاح ومميزات تجربته التشكيلية من خلال النظر في رسوماته: رسوم الحياة اليومية، رسوم البحر، رسوم المرأة، رسوم التجريد، الرسوم الخطية، ورسوم الكتب الثقافية.
2-من هو الفنان منوبي بوصندل؟
ولد الفنان التشكيلي منوبي بوصندل، في 15 أكتوبر 1939 بمنزل عبد الرحمان، وتوفي بها في 25 أكتوبر 2011. وتذكر الدكتورة أحلام بوصندل في مؤلفها أن الفنان كان مولعا بالرسم منذ سن مبكرة، ألهمته الطبيعة الجميلة، وعراقة المعمار المميز لمدينة بنزرت، وخاصة البحر الذي كان يتردد عليه بانتظام يستلهم منه الابداع والانعتاق والجمال. يقول الفنان بوصندل: ” كنت دائما أحلم أن أكون رساما، أرسم منذ بواكري…والرسم لدي بمثابة عملية آلية أو هو عبارة عن عملية لا إرادية” (1986).
زاول تعليمه بكتاب القرية، ثم بالمدرسة الابتدائية لمدينة منزل عبد الرحمان، ثمّ بمدرسة “الفرنكو أراب”. عُرف بانفتاحه على المدن المجاورة، تمرد على قيود الأرض والفكر، ومارس عشقه للفن جامعا بين نقيضين: الهدوء والتمرد. كانت ثورته هادئة، فترجم تمرده في حركة الفرشاة النابضة بالحركة، واللطخات المتتالية والسريعة. ولكن لطخاته لم تمنعه من أن يكون رسمه هادئا، موحيا بالجمال الذي تستكين إليه النفس وترتاح. وارتوت لوحاته من نسمات البحر، وصور المراكب والشطآن. لا شيء يعادل راحة الفنان عندما ينثر هيجان نفسه داخل اللوحة، ويحول بحره الواحد إلى بحار عدة، تتعدد المراكب، والبحار، ولكن الفنان واحد، يبحر من بحر إلى آخر، ومن سفر إلى سفر، بحثا عن الهوية التشكيلية، بل عن التفرد التشكيلي الذي يكون أقرب إلى طبيعته، وأكثر احتواء لخياله التشكيلي.
عشق المنوبي بوصندل مدينته، فكان يحفظ شوارعها وأزقتها، ويتأملها بعين التشكيلي، لا بعين من يسكنها ويعشقها فحسب. فامتلئت لوحاته بصور المدينة، وأقواسها، وعمارتها. فكانت ذاكرته البصرية تستحضر القديم، وتستجمع منظوراتها لتتفرغ لما جد فيها من عمارات وبناءات جديدة.
التحق في بداية الستينات بمدرسة الفنون الجميلة بتونس، بعد استكمال الدراسة الثانوية في بنزرت، ونجاحه في مناظرة القبول بمدرسة الفنون سنة 1960.
عرف الفنان منوبي بوصندل بتميزه في شعبة التزويق لذلك تحصل على منحة الحكومة التونسية سنة 1965، فزار المتاحف الأجنبية وورشات كبار الفنانين بالغرب. وتمتع مرة أخرى في السبعينيات بفرصة للاقامة بالحي العالمي للفنون، والتقى بزبير التركي، عمار فرحات، جلال الكسراوي وآخرين. وخلال تلك الفترة، التحق بجامعة السربون وحصل على الإجازة في الفنون سنة 1973.
3-ملامح التجربة التشكيلية لمنوبي بوصندل:
تعتبر تجربته من أهم تجارب جيل شباب الخمسينات الذي استفاد من وقائع تاريخية واجتماعة وثقافية وطنيا وعالميا. انفتح على بيئته وعالمه، فرسم الانسان في يومياته، والمرأة في معاناتها، وفي جمالها، وفي ملامح عطائها وأمومتها. عشق البحر، فرسم شطآنه، ومراكبه، وحدس فنيا معاناة البحارة، معبرا عن هواجسهم. يحضر الجسد في لوحاته مكثفا، ولكنه ضبابي، تكسوه حركات اللطخة، وحركات الفرشاة السريعة. ناقلا حركات الروح إزاء المناظر التي تغزوها. يحول المرئي الى مرئي مضبب، ويجعل من المنظر الصامت منظرا ناطقا، من خلال التدفق السريع للألوان، ومن خلال التراكم المتواتر لطبقات اللون.
كانت علاقته باللوحة وباللون، علاقة تلقائية شعرية، لذلك “لذلك لم يكن متقيدا برؤية جمالية تقليدية في معالجته لموضوع اللوحة” (ص 26). ولكن رسمه ظل ناهلا من ثوابت الرسم الفني، وأقصد قواعد المنظور، الضوء، الظل، التجانسات اللونية. يغيب الفنان في الرسم التفاصيل، ويندرج في سياقات تفاعلية مع اللوحة، وكانه يعيد نسلها من جديد.
كما اعتنى المنوبي بوصندل برسم المرأة، فيقحمنا في تفاصيل مبهمة لجسد ينبض بالحب وبالحياة، متحرّرا من الرؤى التقليدية الضيقة التي تحصر الجسد في بوتقة الحرمات. إن نساء بوصندل، تجمعن بين تعبيرية موظفة وجمالية ما فوق حسية. إنها جمالية الأدوار الريادية التي مثلتها المرأة عبر العصور، فهي الخصوبة، والامومة، والعطاء والصبر، والتضحية…فكان يستدعي المشاهد ليرى المرأة المتجسدة تعبيريا في لوحاته بعين الفنان الانسان، لا بعين الذكورة (حسناء العسل، امرأة عين كبيرة، ملكة سبأ، قطرة ضياء، حديث نسوة، .
أمّا رسوم التجريد (شتاء، أشرعة، مساء، صباح، ضوء على القوارب، ربيع،)، فهي الأعمال التي تدفعنا إلى الحديث أو إلى الاحساس بالغموض. يقول عمر قيزاني في هذا السياق سنة 1970: ” تدفعنا أعمال بوصندل أحيانا إلى الغموض وفجأة تطالعنا لمسات لطيفة تقدم خلفية تفتح لنا عالم الحلم على مصراعيه” (ص 98).
كما كان الفنان فائق الاهتمام بالرسم التحليلي، معتبرا إياه أساس كل عملية إبداعية، وكان من المدافعين الشرسين على هذه القاعدة (ص 105). تتميز رسوماته الخطية، كما تقول الكاتبة، بانسيابية الخطوط وكثافتها في آن، وتكون بالقلم الجاف، اللبدي، أقلام الرصاص، أو بأقلام الحبر. ترسم الخطوط بشكل سريع ومكثف، وأغلبها رسوم لبورتريهات أو لشخوص في وضعيات مختلفة، بالاضافة إلى رسوم تتعلق بمظاهر من الحياة اليومية، وصور لشوارع وأزقة وبناءات.
في الختام يمكن أن نختم قولنا بشهادة من الكاتبة نفسها حيث تقول متحدثة عن تجربة والدها الفنان بوصندل(ص 6): ” فنّك رسم ، للأزمنة العابرة ولممكنات جمالية المعمار وهيئات سكان منزل عبد الرحمان… حيث أضفيت عليهم لمسة دفعتك إليها رغبة الإمكان، لتجعل من مشاهد رسومك، “مدينتك الفاضلة” وتُشهّر بفنّك للبسطاء والمثقفين…هكذا عرفتك ويعرفك الجميع. منحت للمرأة نصيبا من الرقة والتحرر، خلخلت المعهود، فإنحرفت الأشكال من شاكلة الأشكال، بنور شفاف قذفته على المرسوم كلما آل مصير اللوحة إلى الاكتمال، إنها تلك اللطخات البيضاء التي عمّت سطوح رسومك…لعله اشراق ذاتك المنبعث منك”.
فوزية ضيف الله،
أستاذة الفلسفة المعاصرة وتاريخ الفلسفة
جامعة تونس المنار المعهد العالي للعلوم الانسانية بتونس