أنوار جامعية نيوز / أ.سليم بودبوس
لا ينكر جهود وزارة الصحّة التونسيّة والوزارات ذات العلاقة فيما يتعلّق بالتصدّي لفيروس كورونا إلاّ جاحد، وقد وقف البعيد قبل القريب وقفة إكبار للإستراتيجية الوطنية لمكافحة انتشار هذا الوباء، كما أشادت منظمة الصحّة العالمية بالتجربة التونسية الرّائدة حتّى صارت مضرب الأمثال. لكن لا يمنع ذلك من التنبيه إلى بعض النقائص لا سيما وأنّ عالمنا يتّجه نحو مغامرات ومفاجآت صحية أخرى غير محمودة العواقب.
عندما صادقت الحكومـة والهيئـات المسـتقلّة ومنظّمـات المجتمـع المدنـيّ والمؤسّسـات العالميــة العام 2016على الإستراتيجية الوطنية للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد كنّا قد استبشرنا خيرا بهكذا خطوة في سبيل عصرنة الإدارة التونسية وتحديث هياكلها وإحكام الترابط بين الشركاء من أجل خدمات فضلى للمواطن.
لكن، وللأسف ومنذ انطلاق عمليات إجلاء التونسيين العالقين، ومع المرحلة الجديدة التي انطلقت في 27 جوان الماضي ولا سيما المتعلقة بالحجر الصحي الإجباري للتونسيين العائدين من دول مختلفة بحسب التصنيفات التي أقرتها وزارة الصحة، لاحظنا تخبّطا في تفعيل القرارات وعدم تنسيق بين المتداخلين، فضلا عن التأخير في وصول القرارات إلى الجهات المعنية بتطبيقها فضلا عن التضارب أحيانا في التصريحات.
وهنا أستحضر أمثلة قليلة وواقعية من واقع تجربتنا بوصفنا توانسة مقيمين في الخليج العربي، أقصّ عليكم أمثلة حيّة تؤكد أنّ إدارتنا لا تزال أبعد ما تكون عن الحوكمة الرشيدة في أبسط مظاهرها.
فكما يعلم أغلبكم منعت وزارة الصحة كل مقيم في دولة مصنّفة حمراء من ركوب الطائرة للعودة إلى الوطن (حق دستوري) إلا بعد أن يستظهر بتحليل (pcr) سلبي، وفاتورة خلاص مدة أسبوع إقامة بفندق محدّد من وزارة الصحة و”الشركاء”. ثمّ ألغت الوزارة الفحص الطبي والحجر الصحي الإجباري على الأطفال دون 12 سنة والحجر على أمّهاتهم أو من يرافقهم، ويترتّب على ذلك انصرافهم إلى بيوتهم لقضاء الحجر الذاتي.
لكن يصدر هذا القرار بين عشية وضحاها والناقلة الجوية الوحيدة المتوفرة لنا مثلا في مملكة البحرين لا تصلها المعلومة، ويدخل الجميع في حالة من الإرباك والغموض ولا أحد يقدم الإجابة كاملة، وكأن هذا القرار الذي صدر يخص التونسيين المقيمين في تونس لا المقيمين في الخارج. ولولا جهود خاصة من البعثة الدبلوماسية التونسية في المنامة لبقيت الناقلة الجوية تطبق القرارات القديمة؛ إذْ أنّ السلطات التونسية لم تعلم الناقلة الجوية بالمستجدات، وتحملها في الآن نفسه مسؤولية ركوب التوانسة دون فاتورة خلاص الفندق.
مثال آخر من اللاحوكمة حتى لا أقول الفوضى… نعم يصدر في صباح الأربعاء 15 جويلية تصنيف جديد للدول التي ينتشر فيها الوباء، وتصبح مملكة البحرين مثلا في الدول البرتقالية أي ذات الانتشار المتوسط للوباء، وتصل طائرة في ذات اليوم إلى تونس عصرا، ويطالب العائدون بتفعيل التصنيف الجديد وقضاء الحجر الصحي الذاتي في بيوتهم، لكن يأبى مسؤولو الصحة في المطار إلا أن يأخذوهم إلى الفنادق؛ فليس بين أيديهم توجيه بالغرض، يعني ليس هناك تواصل بين وزارة الصحة وموظفيها في المطار رغم أن القرار منشور على الصفحة الرسمية للوزارة، ويطلب من العائدين ركوب الحافلة والتفاوض مع مسؤول الصحة في الفندق.
وفي الفندق حدِّثْ ولا حرجَ عن الحوكمة؛ فقد اعتبر مسؤول الصحّة أن القرار يُطبّق من اليوم الآتي لصدوره وهذا لا دليل عليه في صفحة الوزارة، بل واعتبر أنّ القادمين من دولة مصنفة حمراء يوم ركوبهم يسري عليهم ما سرى على غيرهم سابقا لأنّ تلك الدولة يوم ركوبهم لا تزال ضمن الدائرة الحمراء حتى وإن دخلت الدائرة البرتقالية يوم وصولهم! يا سلام…
لكن مسؤولة أخرى من الصحة وفي نفس الفندق وجدت مبررا أقوى لتأويل القرار حسب مشيئة المستفيدين منه؛ فقد اعتبرت أنّ المسافر العائد من دولة برتقالية ومرّ في الترانزيت بدولة مصنفة حمراء ولو لمدة سويعات في مطار فيه أعلى درجات الوقاية من العدوى كمطار دبي مثلا، يطبق عليه تصنيف الحجر الإجباري مدفوع الأجر حتى وإن استظهر بفحص سلبي وجاء من دولة مصنفة برتقالية. وهو ما يعني تبعا لتأويلها أن من أتى من دولة مصنفة حمراء ومرّ في الترانزيت بدولة مصنفة خضراء يذهب مباشرة إلى بيته ويعانق أهله في سلام!!! دون تعليق…
في حين في فندق آخر تَفهّمَ مسؤول الصحة الوضعيّة ومضى في تطبيق القرار الجديد بعد عمل فحص على الوافدين الجدد والتأكد من سلامتهم.
وهكذا يصبح بيد عون الصحّة القرار والتصرّف وفعل ما يريد بحسب فهمه إن لم نقل بحسب أمور أخرى… فأين التنسيق أين الأجوبة القاطعة الجامعة المانعة المتناسقة مع القرارات؟؟ لماذا حين يصدر تصنيف جديد لا تصدر معه لوائح تنظيمية توضح اقتضاءاته وكلّ ما يترتب عنه؟ لماذا تترك الكلمة لعون الصحة، مع احترامنا له، ليقوم بتأويل القرار فيساورنا الشك في مصداقيته، لا سيما حين نرى تضاربا في تأويل القرارات وتنفيذها؟ أين الحوكمة الرشيدة؟
لا يخفى على أحد أنّ الحوكمة من أهم الضروريات الحتمية التي أضحى تطبيقها أساساً في الآونة الأخيرة، لضمان تنظيم العمل لغرض وضع مبادئ لإدارة المؤسّسات والرقابة عليها، وتطبيق أسلوب ممارسة الإدارة الرشيدة فيها لتشمل هذه القواعد المتينة ليس فقط منظمات القطاع الخاص فحسب، بل مؤسسات المجتمع المدني والقطاع العام.
لذا ندعو وزارة الصحة إلى مزيد العناية بملف الحجر الصحي الإجباري وإلى حوكمته بمزيد التنسيق وتوضيح المعلومة وإيصالها في الوقت إلى من ينفّذها دون أن يُترَك له باب اجتهاد قد يستفيد منه البعض بغير وجه حق. كما ندعوها بوصفها وزارة خدمات إلى مزيد رقمنة الإدارة وتوظيف تكنولوجيا الاتصال لتوفير خدمات أفضل وحتى تصل المعلومة في وقتها فيستفيد منها المواطن صاحب الخدمة، لا أن يستفيد منها رجال الأعمال وشركات الاستثمار على حساب صحة المواطن وراحته.