أنوار جامعية نيوز/ بقلم أ.سليم بودبوس – البحرين
التكفير من اليسار إلى اليمين
لا شكّ أنّ التكفيرَ، كان ولا يزالُ، حالةً لافتةً للانتباه، بارزةً للعيان، مكشوفةً فكريّا وعلميّا وميدانيّا، بل لعلّها الظاهرة الأكثر صخبًا، والأوفر حظاً لاحتلال واجهة الأخبار القادمة من الوطن العربي، مشرقه ومغربه. غير أنّ لها في المغرب العربي، وفي تونس تحديدا، طابعاً خاصاً، وبعداً جديداً طريفاً؛ نظراً لاحتداد الصّراع الفكري والإيديولوجي وحتى السياسي بين القطبين الأشد تأثيراً في ثقافتنا المعاصرة.
فَبقدر ما انتشرت التيارات التكفيرية ذات المرجعية الإسلامية، برزت بالمقابل تيارات حداثيّة علمانية متشدّدة «تكفّر» من الإسلاميّين كلّ من حاول الحديث باسم الديمقراطيّة والمدنيّة وحقوق الإنسان، الأمر الذي يدعو إلى اعتبار هذه الظاهرة ثقافيةً أكثر منها دينية، وإن كان الدين جزءًا لا يتجزّأ من الثقافة بمفهومها الأوسع.
ليست الحالة التكفيريّة ذات الجذور الإسلامية جديدة؛ بل هي تعود إلى عصر الخلافة، إلى الخوارج، ومن تلاهم من الذين كفّروا العلماء والأئمة والفلاسفة في مختلف العصور الإسلامية؛ ذلك أنهم استكانوا إلى القراءة التجزيئية التي تقتنص من القرآن الكريم آيات أو أجزاء من الآيات لتوظّفها مبتورةً في سياقات ضيقة ومغايرة لمصلحتها. ولئن برز التيار التكفيري المعاصر في النصف الثاني من القرن العشرين إثر موجة الاعتقال والتنكيل بالإسلاميين في سجون بعض الأنظمة العربية القومية، حتى خرج عدد منهم عن طور الاعتدال إلى التشدّد، فإنّ فريقاً من العلماء والمفكّرين الحاملين للمشروع الإسلامي حذّروا من مغبّة التكفير، وخصّصوا أجزاء من جهدهم الدعوي والفكري والسياسي لإبراز خطر الظاهرة؛ لا على وحدة المجتمعات العربية المسلمة وانسجامها، وإنما أيضاً على الجماعات الإسلامية عموماً. ويمكن في هذا السياق التذكير ببعض المقالات والمحاورات والمحاضرات وحتى الكتب لكلّ من يوسف القرضاوي ومحمد الغزالي وفهمي هويدي وراشد الغنوشي ومحمد المختار الشنقيطي وغيرهم كثير
. بالمقابل تميّز المشهد الثقافي المغاربي منذ ستينيات القرن الماضي ببروز التيارات العلمانية وانتشار أفكارها، ولا سيما في أروقة الجامعات والمدارس الثانوية، ولعل طيفاً كبيراً من السياسيين والإعلاميين البارزين اليوم هم خريجو الجامعات في سبعينات
وثمانينيات القرن الماضي.
وهاهم اليوم يتصدّرون المشهد الإعلامي بصفة محللين وخبراء في الظاهرة الإسلامية، ويشاركون في صياغة المشروع الوطني الجديد وفي صياغة التشريعات سواءً في سدة الحكم أو المعارضة، وهذا من شأنه أن يعكس التعدّد والتنوّع الفكري والثقافي والسياسي في المغرب العربي.
غير أن جماعات من هؤلاء العلمانيين نسجوا على منوال خصومهم التقليديين، فنحوا بفكرهم وخطابهم منحى متطرفاً جعلهم من أشدّ دعاة الإقصاء، حيث يرفضون الاعتراف بالآخر المخالف، ولا سيما من الإسلاميين ويعتبرونهم أساس الشر والبلاء لصدورهم عن نفس المراجع الدينية والفكرية للتكفيريين الإسلاميين. ومهما ظهر من تسامح أو اعتدال في الفكر والسلوك لدى الإسلاميين، ومهما أظهروه من مواطنية ورغبة في المشاركة بصفة مدنية في الحياة العامة والشأن السياسي، ومهما.. ومهما.. فإنّ هؤلاء الإسلاميين يظلون في نظر هذه الفئة المتطرفة من العلمانيين «ضالين مضلين» مارقين عن الحداثة، كافرين بالديمقراطية حتى وإن شاركوا فيها. وكم صاحت تلك الأبواق في تونس مثلاً بعد فوز حركة النهضة في انتخابات 2011 البرلمانية أنهم يؤمنون بالديمقراطية فقط للوصول إلى الحكم ثم سيكفرون بها ويهيمنون ويعلنونها خلافة… ورغم أنّ هذا لم يحدث في تونس، ورغم
الاقتراع في 2014 لا كما شاء العلمانيّون، فقد ظلت أبواق بعض الإعلاميين العلمانيين في «المنصات» الواقعيّة والافتراضية تطلق صواريخ الرفض للمشروع الإسلامي المدنيّ الذي تبنته بعض الحركات الإسلاميّة المعاصرة في المغرب العربي. إنّ التّكفير ثقافة إقصاء ورفض للآخر وعدم تصديق لتطوّره وتغيّره، والتكفيريّ من الجهتين المذكورتين سالفاً هو ذات متضخمة تحمل قدراً من الأنانية الشديدة في حقه المطلق بتعريف الناس الحقيقة المطلقة، وكأنه الممثل الوحيد لهذه الحقيقة في الأرض. وإذا كان الاتّهام بالكفر من التيارات التكفيرية قد يؤدي بالآخر إلى التعرّض إلى الأذى وربما القتل والاغتيال كما حصل مع عدد كبير من المفكرين والفنانين، فإنّ «التكفير» المقابل، أي طرد كل الإسلاميين من جنات الحداثة والديمقراطية، وجمعهم عن بِكرة أبيهم في سلّة واحدة هم والتيارات التكفيرية المتطرفة ومن ثمة إقصاؤهم، قد يشجّع بعض الأنظمة على العودة إلى سياسة الاعتقال العشوائي والتصفية السياسية التي عانى منها الجميع لعقود خلت. إن انتشار خطاب الإقصاء أو مجازاً «التكفير» من الجهتين، من اليسار واليمين، يؤكّد حجم الخطر على الانسجام الاجتماعي والثقافي، وقد يعزو البعض بروز هذه التيارات المتطرفة من الجانبين إلى ضعف المشاركة الحقيقية والفعالة للمستنيرين والمثقّفين الذي يؤثرون الصمت في المحطات الكبرى من تاريخنا بدعوى التأمل والتفكير.
إنّ الأمر جدٌّ، بل خطب من الخطوب التي تتطلّب حراكاً مضاعفاً من رموز الاعتدال والتعايش، تنأى بالشباب عن هذه الخصومات القديمة بين أطراف الصراع من العلمانيين المتشددين والإسلاميين التكفيريين. وإنّه من الأهميّة بمكان أن تكفّ هذه الأبواق عن التكفير والتخوين، وأن تلتفت إلى الوطن الذي فيه تعيش، وأن تقببل بالاخر مهما كانت عقيدته وفكره ومذهبه حتى نتجنب عقودا أخرى من الضياع والتلاشي