أنوار جامعية حوار حافظ الشتيوي

حوار مع د. خالد الجابر مؤلف مسرحية “ماسح الأحذية” تتسم المسرحية بالرمزية والشاعرية والسخرية والعاطفة العميقة ويمكن اعتبار هذا العمل بداية مهمة لشراكة فنية بين تونس وقطر.
بعد النجاح الباهر الذي حققته عبر مشاركتها في المهرجانات المختلفة، تعود المسرحية الملحمية “ماسح الأحذية” بحلة جديدة تعتمد على قالب المونودراما، حيث يجسد بطل واحد التفاعلات بين شخصيات متعددة من خلال تفاعله مع أصوات خارجية، مقدّمًا حوارات تعكس الصراعات الوجودية والطبقية التي تواجه الإنسان في رحلة البحث عن هويته وخلاصه. يتناول النص قضايا الحرية، التمرد، الهوية، والاغتراب، مسلطًا الضوء على معاناة الأفراد في ظل أنظمة تكبلهم اجتماعيًا وسياسيًا. تعيد هذه العودة في قالبها الجديد التأكيد على حيوية النص وقدرته على التجدد، مما يضمن استمراره كأحد الأعمال المسرحية العالمية البارزة التي تعكس هموم الإنسان المعاصر في السياقين العربي والدولي.

في البداية كيف يمكن ان تقدم نفسك للجمهو التونسي ؟
د. خالد الجابر، باحث، وأكاديمي وأديب وشاعر، وروائي، ومسرحي قطري، شغل منصب أستاذ الاتصال السياسي في برنامج دراسات الخليج، في جامعة قطر، ومنصب رئيس تحرير صحيفة البننسولا، دار الشرق، الدوحة.
تحصَّل د. الجابر على الماجستير من الولايات المتحدة الأمريكية، ودرجة الدكتوراه من بريطانيا. وهو حاصل أيضًا على دبلوم الإدارة الاستراتيجية والقيادة، من جامعة جورج تاون، واشنطن، ودبلوم إدارة المشاريع في المؤسسات الخاصة، من جامعة ستانفورد، كاليفورنيا، ودبلوم العلاقات الخارجية والتعاون الدولي، من جامعة فوردوم، نيويورك، في الولايات المتحدة الأمريكية.
لماذا اخترت مسرحية “ماسح الأحذية” كعنوان لمسرحيتك؟ وما الذي ألهمك لكتابة هذا النص؟
في البداية أتقدم بأطيب التحيات والشكر والعرفان الى فريقنا المتميز والمبدع، من مهندس السينوغرافيا والاخراج حافظ خليفة، والمتألق الممثل محمد علي العباسي، و الدراماتورجي بوكثير دوما، مصممة الأزياء شكلا جميلا، والفنان نور الجلولي، الموسيقار التونسي زياد الطرابلسي .الذي ترك كل منهم بصمه مميزة مبدعة خلاقة في هذه النسخة من ماسح الأحذية.
في الحقيقة سردية المسرحية رافقتني بقوة في قترة ما بعد “مرحلة الربيع العربي”، والمالات التي وصل بها الوضع العربي من تراجع وحسرة واضمحلال. ايضا كان من تأملي في الشخصيات التي تحولت لكي تعيش على هامش المجتمع، تلك التي قد تبدو للبعض غير مهمة أو غير مؤثرة، لكنها في الحقيقة تحمل قصصاً عميقة ورمزية. “ماسح الأحذية” جاء ليكون رمزًا لهذه الطبقات التي تعاني من التهميش والظلم والاقصاء، لكنها في العمق تجسد معاناة الإنسان بشكل عام.
لكن ماسح الأحذية لم تكن تلك الشخصية التي عهدناها بل جاءت مخالفة للتوقعات بشكل جذري ودرامي في المسرحية؟
صحيح شخصية “ماسح الأحذية” ماسح الأحذية ليس مجرد شخص عادي يعمل في تلميع الأحذية، بل هو رمز لفئة اجتماعية أوسع وطبقة وسطى متعففة تحولت للتعيش في أسفل طبقات المجتمع، تلك الفئة التي فقدت الكثير في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية الكبرى التي تجتاح المجتمعات، وخاصة المجتمعات التي دمرتها الحروب والصراعات. في كل مرة يقوم بتلميع حذاء، يعكس ذلك تناقضًا عميقًا بين المظهر الخارجي النظيف والجوهر الداخلي المليء بالندوب والانكسارات.
بالإضافة إلى ذلك، استلهمت المسرحية من قراءات وأعمال فلسفية عالمية أثرت بي كثيرًا. منها “في انتظار غودو” لصمويل بيكيت و”المحاكمة” لفرانز كافكا. تلك الأعمال تعالج عبثية الوجود الإنساني وأزمة الهوية، وهو ما حاولت معالجته من خلال شخصية ماسح الأحذية. الفكرة الأساسية كانت تقديم قصة تعكس الواقع العربي بشكل خاص، حيث يعاني الفرد من الصراعات الطبقية والاضطرابات السياسية والاجتماعية.
ماهي الرمزية التي حاولت توصيلها الى الجمهور الذي جاء متعطش لمشاهدة المسرحية. ولماذا تعتقد أسباب هذا الاقبال على المسرحية
ربما تماهت المسرحية مع الانكسارات التي يعيشها الانسان العربي مع تراجع الاحلام واتساع حالة التشظي في كيان الاسرة والمجتمع والمؤسسات والدولة. في المسرحية كان ماسح الأحذية ذات يوم شخصية ذات مكانة مرموقة في المجتمع. كان أستاذًا جامعيًا يحظى باحترام واسع، يعيش حياة مليئة بالإنجازات والكرامة. ولكنه فقد كل شيء في لحظة عندما اندلعت الحرب في وطنه. الحرب لم تدمر فقط بنيته التحتية، بل اجتثت حياته الشخصية من جذورها. قريته الصغيرة تحولت إلى أنقاض، وأهله، زوجته وأطفاله، جميعهم قُتلوا في هجوم قاسٍ، تاركونه وحيدًا محاصرًا بذكريات الماضي وآلام الفقدان. هنا تبدأ رحلته في التحول من رجل يحظى بالتقدير والاحترام إلى شخص يعيش على هامش المجتمع، يبحث عن لقمة العيش بأي وسيلة ممكنة.
بعد أن دمرت الحرب حياته، اضطر ماسح الأحذية إلى الهروب، لا من بلده فحسب، بل من ذكرياته ووجعه الشخصي. وهكذا بدأ يهيم على وجهه، متنقلاً بين المدن، بلا هدف سوى البحث عن ملاذ آمن. محطة القطار التي يصل إليها ليست مجرد مكان للتوقف والانتظار، بل هي رمز لحياته العالقة بين ماضٍ لم يعد موجودًا ومستقبل مجهول لا يستطيع الوصول إليه. في المحطة، التي تمثل مكانًا عالقًا بين الحياة والموت، بين الوطن والمنفى، يجد نفسه مضطرًا للعمل في مهنة لا تليق بمكانته السابقة: ماسح للأحذية. ليس لديه خيار سوى أن يجمع النقود بأي طريقة ليتمكن من شراء تذكرة القطار التي ستنقله بعيدًا عن هذه البقعة الملعونة، بعيدًا عن الحروب والصراعات التي أحالته إلى كائن هش مكسور.
ومع ذلك، يبقى أمله الوحيد هو الهروب من هذا الواقع المظلم، هروباً إلى مكان بعيد قد يوفر له فرصة لبدء حياة جديدة. لكن المسرحية تأخذ منعطفًا مؤلمًا حين يقع الزلزال، وهو حدث رمزي يمثل الهزات الكبيرة التي تضرب حياة الإنسان على المستوى الشخصي والجماعي. هذا الزلزال يدمر المحطة، تمامًا كما دمرت الحرب حياته في السابق. الزلزال لا يُحطم فقط المكان، بل يحطم معه آخر أمل كان يتمسك به ماسح الأحذية. فجأة يجد نفسه محاصرًا مرة أخرى، غير قادر على الهرب، غير قادر على مواصلة رحلته نحو الأمان.
في هذه اللحظة، يصبح الزلزال رمزًا أعمق للاضطرابات السياسية والاجتماعية التي يعيشها المجتمع العربي. إنه يجسد الانهيار الداخلي والخارجي الذي يعصف بالشخصيات في المسرحية، كما يعصف بالإنسان العربي الذي يعيش وسط هذا الكم الهائل من التغيرات والأزمات. المشاهد الأخيرة، حيث يبقى ماسح الأحذية عاجزًا في المحطة، تعكس حالة العجز الجماعي في مواجهة الكوارث الكبرى. فقد الأمل، ولم يعد لديه أي وسيلة للهروب من الواقع الذي سحقه.



كيف ساعدك النص المونودرامي في تقديم هذه الأفكار الفلسفية والإنسانية؟
النص المونودرامي هو وسيلة رائعة للتركيز على البعد الداخلي للشخصية، وهذا ما سمح لي بالغوص في أعماق شخصية ماسح الأحذية. النص المونودرامي يعتمد بشكل أساسي على أداء الممثل الوحيد وحضوره القوي على المسرح، وهو ما يتيح فرصة للتعمق في الصراعات النفسية والفلسفية التي يعيشها.
في “ماسح الأحذية”، النص المونودرامي ساعدني على التركيز على الصراع الوجودي الذي تعيشه الشخصية الرئيسية، ماسح الأحذية، الذي يجد نفسه عالقاً بين الماضي والمستقبل، في عالم مليء بالتناقضات والظلم. النص يعالج قضايا مثل التفاوت الطبقي، الهوية، والحرية من خلال هذه الشخصية الفردية التي تحمل على عاتقها معاناة الإنسان المعاصر. بهذا الشكل، تمكنت من تقديم أفكار فلسفية بشكل مباشر ومكثف.
كيف قمت بتطوير الشخصيات الثانوية مثل الرجل العسكري، الرجل الغني، المغترب، والسيدة المطلقة؟ وما دلالاتها في المسرحية؟
الشخصيات الثانوية في المسرحية تلعب دورًا محوريًا في تعزيز الصراع الداخلي والخارجي لشخصية ماسح الأحذية. كل شخصية تمثل جانبًا من الجوانب التي يعاني منها المجتمع والإنسان الفرد.
الرجل العسكري يمثل السلطة القمعية والقوة الغاشمة التي تعتمد على القوة المادية لتسيير المجتمع. من خلاله حاولت أن أعكس صورة الأنظمة التي تتحكم في حياة الناس بالقوة، دون النظر إلى حقوقهم أو احتياجاتهم. شخصية العسكري تعكس السلطة الجائرة التي تفرض نفسها على الأفراد وتجبرهم على العيش في إطار معين.
الرجل الغني يمثل الطبقة البرجوازية التي تسعى للحفاظ على امتيازاتها وتغض النظر عن معاناة الطبقات الفقيرة. هذا الشخص يعبر عن التفاوت الاجتماعي الكبير بين الأغنياء والفقراء، ويكشف عن ازدواجية الأخلاق في هذه الطبقة، التي تعيش في رفاهية بينما تتجاهل المعاناة المستمرة لمن هم أدنى منها.
المغترب هو رمز لأزمة الهوية والاغتراب. هذه الشخصية تعاني من البحث عن مكان للانتماء، بين الوطن الذي تركه والمنفى الذي لا يشعر فيه بالراحة. هذه الشخصية تجسد شعور الكثيرين في المجتمعات الحديثة الذين يعيشون في تشتت بين مكانين أو ثقافتين.
السيدة المطلقة هي رمز للتمرد على النظام الأبوي. هذه الشخصية تعكس صراع المرأة من أجل التحرر في مجتمع تقليدي يفرض عليها قيودًا اجتماعية وأبوية، وتبرز مدى الصراع الذي تواجهه النساء في سعيهن للحرية والاستقلال.

ما هي العناصر الرمزية التي اعتمدت عليها في المسرحية؟
الرمزية هي عنصر أساسي في “ماسح الأحذية”. كل مشهد وكل شخصية تحمل رمزية معينة تعكس جوانب أعمق من الحياة الاجتماعية والنفسية والسياسية.
محطة القطار هي المكان الذي تدور فيه الأحداث، وهي رمز للمجتمع العالق بين الماضي والمستقبل. المكان يوحي بالانتظار، الضياع، والبحث عن مخرج من الواقع. محطة القطار تحت الأرض تعزز الإحساس بالعزلة، كما تعكس حالة الفوضى والعجز.
الحذاء هو رمز التفاوت الطبقي. فالحذاء يظهر المظهر الخارجي النظيف، بينما يخفي المعاناة والظلم تحت السطح. كما يعكس هذا الرمز الفجوة بين الأغنياء والفقراء، حيث يعمل ماسح الأحذية على تنظيف أحذية الآخرين، لكنه يظل في القاع دون أن ينال أي تقدير.
الزلزال هو رمز للانهيار الداخلي والخارجي. في المسرحية، يضرب الزلزال في اللحظات الأخيرة ويؤدي إلى انهيار كل شيء. هذا الزلزال يعبر عن التحولات الكبيرة التي قد تحدث في المجتمع أو في حياة الأفراد، وهو يعكس الهزات التي يعاني منها العالم العربي.
ماذا عن اللغة والأسلوب في المسرحية؟
اللغة في “ماسح الأحذية” تتسم بالرمزية والشاعرية. حاولت أن أمزج بين الحوار المباشر والحوارات الداخلية، حيث تنكشف أزمات الشخصيات النفسية والفلسفية. كما استخدمت السخرية في بعض المشاهد لانتقاد الواقع بطريقة غير مباشرة، وفي أحيان أخرى استعنت بالعاطفة العميقة لتعبر عن المعاناة الإنسانية.
استخدمت أيضًا تقنية كسر الجدار الرابع لتفاعل الشخصيات مع الجمهور، مما يجعل المتلقي جزءًا من الأزمة التي تعيشها الشخصيات. هذا الأسلوب كان مهمًا لخلق علاقة مباشرة بين الممثل والجمهور، وجعل التجربة المسرحية أكثر تأثيرًا.
ما هي دلالة النهاية المفتوحة للمسرحية؟
النهاية المفتوحة كانت خيارًا متعمدًا لإثارة التساؤلات عند الجمهور. المسرحية تُختتم بزلزال يعصف بالديكور، ويبقى ماسح الأحذية وحيدًا يبحث عن عائلته التي فقدها. النهاية تثير تساؤلات حول ما إذا كان ماسح الأحذية يمثل التمسك بالماضي أو الاستسلام لعبثية الحياة. تركت النهاية مفتوحة لأنني أردت من الجمهور أن يشارك في طرح الأسئلة حول مصير الشخصية والمجتمع.
سؤال هل يكمن القول ان العمل هو بادرة لشراكة فنية بين تونس وقطر؟
المؤلف: بالفعل، يمكن اعتبار هذا العمل بداية مهمة لشراكة فنية بين تونس وقطر، ولكنه ليس مجرد بادرة واحدة، بل خطوة أولى ضمن سلسلة من الشراكات المستقبلية التي نخطط لها ونسعى لتطويرها على المستويات العربية والإقليمية والدولية. المسرح التونسي، كما نعلم جميعًا، هو واحد من أكثر المسارح حيوية في العالم العربي. فهو يتمتع بتاريخ طويل من الإبداع المتواصل والنشاط الفني المكثف الذي لا يتوقف، ويضم نخبة من المبدعين والفنانين والمخرجين والحرفيين الذين يتميزون بمهارات استثنائية.
المسرح في تونس يشبه خلية نحل، حيث يتعاون الجميع بروح جماعية وينخرطون في إنتاجات فنية ذات جودة عالية، تُظهر قوة الإبداع التونسي وتساهم في الحفاظ على هوية المسرح العربي. لقد أذهلتني هذه الحيوية والإبداع، ومن خلال هذه التجربة أدركت أن هناك إمكانات هائلة للتعاون بين المشهد المسرحي في تونس والمسرح الخليجي بشكل عام والقطري بشكل خاص. نرى أن هذا التعاون يمكن أن يلعب دورًا حاسمًا في تقديم أعمال فنية جديدة ومبتكرة تساهم في إعادة صياغة الصورة الحضارية للإنسان العربي على الساحة الفنية العالمية.
كلمة اخيرة د.خالد
أود ان أوجه كلمة شكر لكل من ساهم في انجاح هذا العمل واخص بالذكر كامل الفريق الذي اشتغل بجدية فإلى جانب الممثل محمد علي العباسي والمخرج حافظ خليفة طبعا أشكر بوكثير دوما على الدراماتورجا وآمال الصغير على الملابس وزياد الطرابلسي على الموسيقى التصويرية وجلال مصدق على الإضاءة ونور جلولي على الهندسة الرقمية وورؤى القلعي مساعدة المخرج ومفيدة المرواني في القيافة والماكياج