أنوار جامعية نيوز / سليم مصطفى بودبوس – البحرين
منذ أن وطئت قدماي هذا البلد الآمن، شعرت بمدى التشابه بينه وبين وطني العزيز تونس، ولمست في أهل البحرين خصالا جعلتني لا أشعر بالغربة يوما، بل يزداد يقيني يوما بعد يوم أنّ ما يُقرّب طَرفَيْ الأمة العربيّة أكثر ممّا يُباعد بينهما.. ودَوّنت ذلك سابقا في أكثر من مقال… ولكنّي اليوم أجد نفسي مبهورا بلقاء شخص يمثّل لقبه العائليّ وذاكرته السخيّة حلقة أخرى من حلقات الوصل بين البلدين الشقيقين نعم إنّه الوجيه محمّد عبد الله المناعي المحبّ الوفيّ لتونس الخضراء.
حين جالسته مساء السبت الماضي في مجلسه العامر في إطار الحديث عن جمعيّة البحرين الخيريّة، لم يخطر ببالي أن أجد في كنوز أحاديثه باقة من الذكريات العطرة عن تونس الخضراء، ولم يخطر أيضا ببالي أن أسمع ما سمعته من حقائق التاريخ ووقائع الماضي التي تؤكّد العُرى الوثيقة بين درّة المتوسّط ودرّة الخليج العربي قديما كما هي اليوم.
نعم، كان الحديث ممتعا مع الوجيه محمد عبد الله المناعي ولا سيما حين استرسل في استحضار وقائع من الماضي البعيد، واستجلب صورا مشرقة من الماضي القريب. وسأنقل منها شذرات تعلّقت بحبل الودّ الموصول بين تونس الخضراء ومملكة البحرين.
حدّثني الوجيه محمد عبد الله المناعي عن امتداد آل المناعي في شمال إفريقيا، وتحديدا في تونس ويرجّح سبب ذلك إلى أنّ المنانعة ربّما قد وصلوا إلى تونس واستوطنوها منذ زمن أبعد قد يعود إلى الهجرة العربية المعروفة ” بالهجرة الهلالية ” وهي من أشهر الهجرات العربية إلى شمال أفريقيا في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. وقد يكون الموضوع مجرّد تشابه في اللقب فقط. وفي جميع الحالات فإنّ الأمرَ يتطلب المزيد من البحث. و لكن الأكيد أنّ القبيلتين من القبائل العدنانية التي ترجع أصولها إلى الجزيرة العربية.
وحدّثني الوجيه محمّد بن عبد الله المناعي فيما حدّثني عن “رسالة المناعي” الشهيرة إلى أحمد باي، فما قصّة هذه الرسالة؟
ولد محمد بن محمد بن سليمان المناعي بتونس العاصمة التي نزح إليها أبوه، وقد قرأ محمّد المنّاعي في الكتّاب ثم في جامع الزيتونة، وتخرّج منه على عدد من أعيان المدرّسين، وقد حصلت له مَلَكة أدبية، وأصبح له باع في التحرير والإنشاء، فاستكتبه حسين باي في حياة والده. ويبدو أنّ عمله كان محفوفا ببعض المشاكل التي لا تخلو منها قصور البايات والسلاطين آنذاك. وقد كتب محمّد المناعي رسالته الشهيرة الموسومة بـ (رسالة إلى أحمد باشا باي في الشكوى من أبي الضياف وسائر أعدائه) وقد قام بتحقيقها الكاتب أحمد الطويلي وصدرت عن الدار التونسية للنشر سنة 1977. ولمحمّد المناعي التونسي قصيدة رائعة يتذمّر فيها من سوء معاملة بعض رجال القصر الحسيني ومطلعها:
كفاك يا سُقم ما أنهكت من بدني أفوقَ ما نلتَ من ضُعفي ومن وهني
وبعد أن استرجع نصيبا من ذكريات آل المناعي في تونس في القرن التاسع عشر الميلادي، التفت إليّ محدّثي وقال: هل تدري أنّ المكان الذي تجلس فيه قد جلس فيه العديد من الأصدقاء والسفراء التوانسة منهم على سبيل الذكر لا الحصر سعادة السفير الأستاذ خالد الزيتوني، والصديق الدكتور مبروك المناعي أستاذ الأدب في الجامعة التونسية… وكذلك المرحوم الحبيب بورقيبة الابن الذي زارني مرّتين في البحرين.
وواصل محدّثي قائلا لقد كانت لنا علاقات طيّبة مع الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة.. وأذكر جيّدا أنّني كنت في زيارة عمل إلى تونس ضمن وفد خليجيّ سنة 1986 لافتتاح فندق سياحي (دار نوار) في منطقة (قمرت) بالعاصمة، وحظيتُ قُبَيْل الافتتاح باستقبال خاص من الزعيم الرّاحل الحبيب بورقيبة في قصر قرطاج وذلك بترتيب من ابنه الحبيب بورقيبة الابن، وقال لي الراحل الحبيب بورقيبة: “لن يكون معكم غدا في الافتتاح وزير السياحة، وإنما سيكون معكم الوزير الأوّل محمد مزالي”؛ وذلك في نوع من التكريم الشخصيّ لي والتقدير والإكبار لجهود التعاون الاقتصادي بين البحرين وتونس.
وواصل الوجيه محمد عبد الله المناعي قائلا: “وقد كانت لي بالمرحومة فتحية مزالي وزيرة العائلة والنهوض بالمرأة وحرم الوزير الأول الراحل محمد مزالي علاقة عمل مشترك حين كنتُ رئيس جمعية تنظيم الأسرة البحرينية، وقد كانت السيدة فتحية أول وزيرة تونسية وإحدى مُؤسِّسات الجمعية التونسية للتنظيم العائلي، ولا شكّ أنّ تونس رائدة في هذا المجال…
لقد جدّد الوجيه محمّد عبد الله المناعي، من خلال اللقاء، العهد مع أهله وأصدقائه من تونس؛ حيث ركبنا معه بانوش الذكريات، فأخذ يبحث في المحار عن لآلئ الماضي الجميل التي جمعته بتونس يرويها بأسلوبه الماتع، وصوته الرخيم الهادئ، ويتذكّر الأحداث والمواقف المؤثرة… وقد تجلّى من خلال حديثه المعدن الطيب والأصيل لهذا الرجل ذي الأيادي البيض على العمل التجاري والخيري في البحرين وخارجها على حدّ السواء.