صفاقس الحزينة.. وداعا شهر أوت 2020 بقلم الاعلامي سليم بودبوس

أنوار جامعية نيوز / أ.سليم بودبوس

الاعلامي سليم بودبوس

لكِ الله يا صفاقس، يا مدينتي الحبيبة، يا قلعة الأجداد الأبية في فَقْدِكِ العظيم خلال شهر أوت المنصرم.. فَكَمْ هو عظيم مُصابكبوفاة زمرة من خيرة أكبادك: عظيم الأطباء وكبير الجراحين الدكتور محمد عصام البيروتي، صديق الأساتذة والمثقفين ساحر الحكمة الأخ محمد نجيب عبد المولى، ساحر الكمنجة الفنان الأنيق والمايسترو الرقيق الحبيب الزوش، ساحر الأجيال على المستطيل الأخضر الخلوق حمادي العقربي، ثم الكاتب والسيناريست الفنان المبدع جمال الدين خليف… لك الله يا مدينتي الحزينة في فقدك الجليل!

هؤلاء الخمسة قد لا يجمعهم في الظاهر خيط ناظم، ولكن جمعَ رحيلَهم عنّا شهرٌ واحدٌ، شهر تفطّرت فيه الأكباد وسالت الدموع حزنافي أرجاء المدينة الحزينة… نعم، من عاصرهم وتابع مسيرتهم، كُــلّا في مجاله، سيجدهم جميعا رحمة الله عليهم “مدارس”تتلمذنا على أيديهم، وتربّينا على جميل أقوالهم وأعمالهم، وصقلنا ذائقتنا الفنية والرياضيّة على روائع ممّا سوف يخلّده التاريخ وطنيا وعربيّا.

محمد عصام البيروتي: “أبنائي أحبّوا مرضاكم”

قبل كلّ شيء جمع هؤلاء -رحمهم الله- حبّ مدينة صفاقس، وسأضرب على هذا الحبّ مثالا واحدا؛ فالدكتور محمد عصام البيروتي الذي وافاه الأجل يوم 10 أوت الماضي عن سنّ تناهز 72 سنة هو أصيل مدينة طرابلس اللبنانية، لكنّه صفاقسيّ الهوى استقرّ بصفاقس ،فأحبّ هذه المدينة حُـبَّين: حبَّ الهوى  حين تزوّج من السيدة أسماء عبيد، وحبًّا لأنّها أجل لذاك حين أخلص لمهنته وللعلم وللطلبة وللمرضى كما لم يخلص لهم أحد؛ فهو واضعُ أسس ومناهج كلية الطب بصفاقس، وقد رَأَسَ قسم الجراحة العامة بالمستشفى الجامعي الحبيب بورڨيبة بصفاقس طيلة 23 سنة إلى حين تقاعده، وترك وراءه ذكرى رجل زخرت حياته المهنية والاجتماعية بالعمل والنشاط لفائدة مرضاه وطلبته،وسعى طيلة حياته المهنية التي كرّسها للطبّ العموميّ إلى الارتقاء بمستوى المدرسة التونسيّة للجراحة.وعلّم طلبته أنّ مهنة الطب “تسخير النفس لخدمة المرضى”، وترك فيهم مقولته الخالدة: “أبنائي أحبّوا مرضاكم”.

حمادي العقربي: التواضع الفطري والعفة الأخلاقية

كما جمع هؤلاء -تغمّدهم الله بواسع رحمته- الخُلُق الرفيع ومحبّةُ النّاس لهم جميعا؛ فجميعهم شخصيّات عامّة اغتذينا من مَعين أخلاقهم الرفيعة وتواضعهم الفذّ. وانظرْ في سيرة ساحر الأجيال أسطورة كرة القدم التونسية حمادي العقربي تجد مصداق ما نقوله؛فالرّاحلُ توفّاه الله بعد صراع طويل مع المرض يوم الجمعة 21 أوت 2020 تاركا وراءه لوعة في قلوب كلّ التونسيين. نعم،وقد ترجم تلك المحبّة موكب دفنه المهيب. ومن أجمل ما قيل في تأبينه ما جاء على لسان السفير المغربي حسن طارق: “فيه لمسات الفنان المختلف عن الأقران وفيه مهارات الهواية المتمردة والعصية على قوالب الاحتراف الجاف داخل الملعب، وخارج الملعب يستمر الفنان في الحياة وسط قلوب الجماهير، من خلال كيمياء نادرة تجمع بين مواصفات التواضع الفطري والعفة الأخلاقية والخجل الإنساني وبلاغة الصمت”. ويختم مقاله بالقول: “بلا نجومية مصطنعة بكثير من التعالي ولا ضوضاء مفرطة في الضجيج، وبلا جَرْي مُضنٍ على البقاء المتنطّع تحت الأضواء، امتلك حمادي العڤربي محبة الشعب، وتحوّل إلى مُلهم للشبيبة” .

محمد نجيب عبد المولى: المربّي المفكّر والفيلسوف

كما يلتقي هؤلاء الراحلون الخمسة -رحمة الله عليهم- في كونهم مُربّين كلّ في مجاله وبأسلوبه المميّز،وليس غريبا أنْ أتّخذ من المغفور له محمد نجيب عبد المولى مثالا على ذلك. فقد فُجعت مدينة صفاقس يوم 13 أوت الماضي بخبر رحيل رجل من رجالتها في مجال حقوق الإنسان، المربي الفاضل محمد نجيب عبد المولى. والفقيد أستاذ لمادة الفلسفة،لطالما نهل التلاميذ والطلبة من علمه واستفادوا من دروسه ومنشوراته؛ فقد تبرّز الأستاذ محمّد نجيب عبد المولى في تدريس الفلسفة ومناهجها، ثمّ تدرّج في مسالك التربية حتى صار متفقّدا عامّا للتربية، وأشرف على إصلاح تعليم الفلسفة في أوّل التسعينيّات.كما كان المغفور له وجها ثقافيا وطنيا، ومناضلا حقوقيّا بارزا وخبيرا دوليا في تدريس حقوق الإنسان. وللفقيد قيمة اعتبارية كبيرة فهو مثال نادر في تمثّل المواطنة مفهوما وسلوكا،وقد سعى إلى تكريس ذلك عندما ترأس النيابة الخصوصيّة لبلدية صفاقسبعد الثورة. وقد وصفه الدكتور فتحي التريكي بأنه مفكر وفيلسوف “كرّس حياته لتطوير تعليم الفلسفة ونشرها في المجتمع المدني وربطها بالشأن العام. كان الفقيد متخلّقا متعقّلا متنوّرا ناشطا ناضل بصدق من أجل الكلمة الحرّة والفكرة الصّائبة والحوار المثمر”.

الحبيب الزوش: مايسترو من عمالقة الموسيقى بتونس

ولئن اختلف الراحلون الخمسة في الأسماء والمجالات، فإنّهم اجتمعوا أيضا في رقّة الإحساس والذوق الرفيع والشاعرية الحالمة ولعلّ الفنان الحبيب الزوش ساحر الكمنجة في مدينة صفاقس خير مثال على ذلك. فببالغ الأسى والحسرة نعت صفاقس والعائلة التربوية والموسيقية الموسعةيوم 20 أوت الماضي أحد أبرز الوجوه في الميدان الفني والميدان التربوي المغفور له بإذن الله تعالى الأستاذ الفاضل والمربي المتميز والزميل المحترم الحبيب الزّوش أستاذ التربية الموسيقية والعضو البارز في الفرقة الموسيقية للإذاعة الجهوية بصفاقس عن سنّ تناهز 58 سنة. والفقيد علامة موسيقية فارقة في جهة صفاقس، وهو إلى ذلك صديق الجميع؛ عرف بفنه الراقي وأخلاقه الرفيعة وحبه للجميع… وقد نعاه صديقه الفنان جمال الشابي بالقول: “إنّ المايسترو الحبيب الزوش من عمالقة الموسيقى بتونس وقد لحّن لي شخصيا 13 أغنية، ولحّن لكثيرين غيري. وقد أمتع الفقيد الجمهور الفنيّ بألحانه العذبة وأدائه الفذّ على آلة الكمنجة سواء بما لحّنه هو شخصيّا أم بما اختاره من أغان تونسية وعربية ليؤديها عزفًا على آلة الكمنجة.

جمال الدين خليف: سجلّ حافل وعطاء غزير

كما يجمع الراحلين الخمسةَ العطاءُ اللامحدود، ولكنّي سوف أخصّ الفقيد كاتب السيناريو والمنتج الإذاعي والمسرحي العصامي جمال الدين خليف بهذا الأمر؛ فقد وافته المنية فجر يوم 22 أوت، عن سنّ تناهز 77 عاماتاركا سجلّا حافلا بالأعمال الدرامية الإذاعية والتلفزية على الصعيدين الجهوي والوطني، حتّى غداعلَمًامن أعلام المسرح، قضى أغلب أيامه ولياليه مع فكره وخياله وقلمه يثري الساحة الثقافية بالمسرحيات والمسلسلات… ولا أزال إلى اليوم أذكر أنّنا لا نفطر في شهر رمضان ثمانينيات القرن الماضي إلا على أصوات أبطال المسلسل الإذاعي« سي رجب » و «ملا عوج »..

ويصل عدد الأعمال التي أنتجها الراحل خليف إلى 1620 عملا دراميا في إذاعة صفاقس تأليفا وإنتاجا وإخراجا،كما ترأس مصلحة التمثيل بإذاعة صفاقس ومصلحة البرامج.وكتب جمال الدين خليف سيناريوهات عديد الأعمال التلفزية الناجحة على غرار مسلسل « غالية » ومسلسل « المتحدي » ومسلسل «الزوجة الخامسة»…

وختاماً، ليست كلمتي هذه تأبينا في حقّهم لأنّي لم أُوفِ هؤلاء كلّ حقّهم، ولكن هي كلمة اعتراف لهذا الجيل الذي تربّينا على قيمه فأحببناهم وأحبّونا، وهي لوعة تركوها في قلب مدينتي صفاقس، هذه المدينة التي ستبقى ولاّدة على مدى الدّهر. رحم الله هذا الرعيل الفذّ، وأسكنهم الفردوس من جنّاته.

 L-univers

L-univers

Journal électronique traitant des affaires étudiantes, de la vie universitaire, des services universitaires et des activités communautaires

Shopping Basket