أنوار جامعية نيوز / د. علي فيصل الصديقي – البحرين
“عندما يلح سؤال الهوية على علم القانون”
الهوية، رغم أن تعريفها قد لا يكون جامعاً مانعاً، إلا أنه بنحو التبسيط مجموعة السمات والخصائص التي تميّز شيئاً عن غيره،أي العناصر التي يمكننا التعرف من خلال على جوهر الشيء وذاتيته. وبالتالي فإن الهوية القانونية هي مجموعة السمات والخصائص التي يتمتع بها نظام قانوني معيّن، بحيث يكتسب هذا النظام من خلال تلك المظاهر ذاتيته المستقلة التي تعلن تفرّده بأسلوب معالجة القضايا والسلوكيات وتنظيمها في المجتمع. فهي تعتمد إذن على شخصية المشرّع، وعقل المشرّع، ونظرة المشرّع إلى الموضوعات، وطريقة تفكيره ومنطلقاته وأسلوب معالجته للأمور.
في العصر الحديث، عُرفت مدارس القانون الكبرى اللاتينية والانكلوسكسونية كمدرستان تتزعمان علم القانون، وألقت كلتا المدرستين بظلالهما على مختلف الأنظمة القانونية في العالم، وصارت نظرياتهما تسري مجرى الدم في عروق الدساتير والقوانين في شتى بقاع العالم. غير أن ذلك لا يعني عدم وجود مدارس أخرى تعبّر عن الأبعاد الثقافية للمجتمعات المتختلفة شرقاً وغرباً، فهناك المدرسة القانونية الصينية، والهندية القديمة، وهناك أيضاً ما عُرف بالقانون العرفي الأفريقي. وهناك مدرسة الشريعة الإسلامية التي تعتبر أبرز وأهم المدارس القانونية ضبطاً في صياغة المعايير البنيوية وقابليتها إلى التطبيق وظيفياً.
إن اختلاف المدارس القانونية، على النحو السالف، لا يعني عدم تأثر تلك المدارس ببعضها البعض، أو حتى تفرعها في بعض الأحيان إلى أصناف. فالمدرسة اللاتينية أنجبت المدرسة الجيرمانية، والمدرسة الأنكلوسكسونية أفرزت المدرسة الأنكلوأمريكية، ومدرسة الشريعة الإسلامية فلاشك أنجب مدارس متعددة عرفت بها مذاهب المسلمين عموماً. كما أن علاقات التأثير والتأثر ليست إلا وجهاً من أوجه التلاقح الحضاري بين الأمم، وإن كانت بفعل الاستقطاب السياسي والثقافي في أحيان أخرى.
في عصر الدولة القومية التي أحاطت نفسها بسياج حدود، نحن بحاجة إلى دراسة هوية كل قانون يصدر لدينا من أوجه: هيكليته، ومصادره، وتاريخه، وفعاليته، ومدى انتمائه للواقع الوطني والثقافة الوطنية ومدى تأثره بقيم وأخلاقيات غربية. يجب علينا أن نكرر السؤال المعرفي بشأن القانون: من أين نستمد عادةً نظمنا القانونية، وتشريعاتنا الوطنية، ومدى توافق هذه الاستمدادات مع واقعنا وتراثنا ومدى ارتباطه بقيمنا وأعرافنا. قد نحتاج في دراسة ذلك إلى علوم مساندة وتخصصات معرفية مساعدة، لا أن نختزل دراسة الموضوع من منظور علم القانون وأدواته الدراسية فحسب، فالأبعاد الانثروبولوجية والاجتماعية والاقتصادية يجب أن تكون حاضرةً دائماً في دراسة هكذا موضوعات.
ومن هنا، أدعو المهتمين من طلبة الدراسات العليا، إلى بحث موضوع الهوية القانونية لتشريعاتنا الوطنية، ودراستها من خلال عناصرها البنيوية والاجتماعية المختلفة، لنجيب على تساؤل أعتقد مشروعيته الملحة: هل تعبّر التشريعات الصادرة لدينا عن هويتنا الوطنية؟ أم أنها متأثرة بهويات أخرى أو محمّلة بثقافات أخرى؟. أياً كانت النتائج التي نتوصل إليها، فإننا يجب أن نضعها في ميزان التقويم، فلا عيب في استيراد بعض المعالجات القانونية التي تصلح لنا وتستقيم مع قيمنا وإرثنا الحضاري، إذا كانت هذه الإستمدادات تعكس طابعاً إيجابياً في خدمة الإنسان والوطن، فهذه الدعوة ليست للتخلي عن واقعنا القانوني ورميه في سلة المهملات، بل على العكس هي دعوة لمناقشته وقياس مدى كفاءة نظامنا القانوني ومدى توافقه مع قيمنا المحلية، فإن كان مفيداً لنا ويتواءم مع هويتنا فمرحباً به، وإن لم يكن كذلك فإنها فرصة لمراجعته والبحث عن الأصلح من بين البدائل الأخرى.
تنشط لدى مؤسسات البحث في الدول الغربية – التي تعتبر عادةً دولاً مصدرة للقانون- حركة دراسات ومؤتمرات لأغراض البحث في علاقات التأثير والتأثر من الأنظمة القانونية المقارنة، ويطلق عليه “دراسات الاستزراع القانوني” أي زرع القانون في بيئة غير بيئته الأصلية، وقد وضع هذا المصطلح – لأول مرة في علم القانون – المؤرخ القانوني الاسكتلندي آلان واتسون (1933-2018م)، وليس لهذا المصطلح مقابل في الفكر القانوني العربي سوى القول أنه: نقل التشريعات الأجنبية ووضعها في البنية القانونية الوطنية، أي استقبال القانون الأجنبي واستيراده على النحو الذي يصبح جزءاً من التشريع الوطني، وبالتالي يعد نقلاً للمعرفة القانونية من دولة إلى أخرى. وتتعدد أسباب “الإستزراع القانوني” في واقع الأمر، وفي تقديري أنها ترجع إلى واحد أو أكثر من الأسباب أدناه:
- أسباب سياسية: قد يكون الاستزراع القانوني لأسباب سياسية من خلال فرض التشريع من قبل دولة تجاه دولة أخرى كما هو الحال في الحالة الكولونيالية، أو من خلال الاتفاقيات الدولية التي تبرمها الدولة.
- أسباب اقتصادية: قد يكون الاستزراع لأسباب اقتصادية تتعلق بتكاليف صناعة التشريع، حيث تعمد بعض الدول إلى التخفيف من التكاليف المترتبة على إعداد التشريع من كافة جوانبه المتعددة، فتلجأ الدولة إلى أخذ تجربة تشريعية جاهزة ومنجزة في دولة أخرى، ومحاولة مواءمتها مع الأوضاع القانونية الوطنية من خلال إجراء تغييرات جزئية في تلك القوانين الأجنبية المصدر.
- أسباب فنية: قد يكون الاستزراع القانوني لأسباب فنية وتقنية، إذ أن بعض القوانين تتضمن في طياتها جوانب فنية وتقنية ليست من صميم اختصاص رجل القانون وليست من قبيل مهنة القانوني بقدر ماهي مهنة أصحاب تخصصات أخرى كالطب والصناعات المختلفة وعلوم تقنية أخرى. ومن هنا يذكر البعض أن اللجوء إلى القانون الأجنبي بمثابة اعتراف بنقص الخبرة أو الضعف في مجال صناعة التشريع.
- أسباب ثقافية: حيث أن التقارب المكاني بين الدول، وبالضرورة التقارب الثقافي بينها، يجعل من عملية الإستيراد التشريعي ظاهرة مقبولة لدى المشرع المحلي، ولا يرى فيها بأساً. بل تعد مبرراً كافياً لاسيراد القوانين الأجنبية دون التمحيص الدقيق.
- أسباب دينية أو مذهبية: قد تستورد دولة من أخرى تشريعاً ينظم مسألة دينية أو ذات علاقة بالمجال الديني أو المذهبي، نظراً لتشابه مذهبهما أو دينهما. مثل ذلك تشريعات الأحوال الشخصية التي قد تستوردها الدول العربية من بعضها البعض، خاصة بين تلك الدول التي تتشابه في مذهبها المعتمد.
- أسباب تقدّمية: هنا نتحدث عن حالة تقدم علمي في مجتمعات عن الأخرى، حيث ترى بعض المجتمعات النامية أو الأقل تقدماً أن التشريع في الدول التي تتقدم عليها سيكون بلا شك أكثر ملاءمة وجودة إذا ما عرضت المسألة للإختيار بين نظم قانونية متعددة، إذ من عادة الدول المتأخرة أن ترى في الدول المتقدمة الأفضلية في كل شيء فالمغلوب دائماً ما ينبهر ويتبع الغالب كما يقول العلامة ابن خلدون، ويشمل هذا الاقتداء اعتقاد الأفضلية في صناعة التشريع ومعالجاته المختلفة، فتلجأ الدول إلى استيراد التشريع الأجنبي مباشرة بوصفه تجربة رائدة، دون التعمق في جوهرها.
على الرغم من أن الواقع الغربي يضع درس “الاستزراع القانوني” تحت المجهر في توصيف وتحليل السياقات المرجعية للتشريعات المختلفة. فإنه للأسف فإن مثل هذه الدراسات نادرة جداً – إن لم تكن معدومة- في واقعنا العربي. إن كنت تريد أن تعرف من أنت؟ عليك بالعناصر الأولية التي تشكل ذاتيتك المستقلة، فمن خلالها ندرك الشخصية القانونية التي يتمتع بها نظامها القانوني، وعناصر القوة والضعف في ذلك. كلما كان الاستيراد كبيراً ومحملاً بأبعاد الثقافات الأخرى، فمؤدى ذلك أنك في حالة ضعف تستلهم قوتك من الآخرين، وكلما كان نظامك القانوني معبّراً عن ذاتيتك، فأنت قوي بإمكانك تصدير تشريعاتك، كما لو كنت تصدر منتجاً ثقافياً. فلندرس عناصر بنيانا القانوني ومرجعياته التأسيسية؟ لعلنا نكتشف زوايا في هويتنا كنا عنا غافلين.
د. علي فيصل الصديقي
خبير قانوني، من مواليد المُحرّق – البحرين عام 1984م، وهو محاضر جامعي غير متفرغ، وعضو لجنة الخبراء القانونيين بمنظمة العمل العربية، وهو ناشط في مجال الثقافة القانونية، وقد صدرت له مؤلفات وأبحاث متنوعة في مجال القانون.
ايميل التواصل: ali_faisal@live.com