“في رحاب الصحراء وجدت حقيقة ما” قراءة في فيلم “بابا عزيز” للمخرج التونسي ناصر خمير

طارق الحاج صالح

أنوار جامعية نيوز/ طارق الحاج صالح

“في رحاب الصحراء وجدت حقيقة ما” قراءة في فيلم “بابا عزيز” للمخرج التونسي ناصر خمير

“الابداع لاوطن له ” اندريه جيد “الفن وحده ينقذنا من الجنون ” غادة السمان

” لا اريد ان اصنع افلام جميلة ‘اريد ان اصنع افلاما مفيدة ” روبرت

1-ما معنى أن نعيش في رحاب الفن؟

معلقة فيم باب عزيز للناصر خمير

 قد تنشأ بينك وبين ثقافة المشاهدة علاقة تفاعلية خاصة عندما ما يتطلب الامر أن ننغمس في رحاب  المشاهدة اليومية لما أبدع فيه المخرجون السينمائيون من افلام ههنا يجدر بنا التأكيد على ضرورة اكتساب وتعلم أسلوب عيش جديد هو العيش في رحاب الفن، عندها يصبح الفن ضربا من المتعة اليومية.

إن الفن هو ثقافة ممتعة غنية بالحيوية والحياة ، فهو لحظة ترتحل بنا في سرديات طويلة لا تعترف بالنهاية لتجمع بين الابداع والإمتاع . إنه لحظة جديدة تتأكد مع الولادة المتجددة لفن الفرجة أو  للثقافة السينمائية التي سرعان ما انتشرت بشكل كبير في انحاء العالم خاصة مع التطور التكنولوجي.

بوسعنا التأكيد على جدارة الحياة ومتعتها حينما نقف أمام سنفونيات بتهوفن والى نغم أشعار هولدرلين أو حينما تجرنا أقدامنا إلى فرجة من عالم اخر في أعظم المسرحيات العالمية لوليام شكسبير …نحن محظوظون حقيقة لأننا عشنا في عصرا خلّد كل هؤلاء المبدعين . يُعطينا الفن الحياة في سياقات متعددة ويبعث فينا حيوية وأملا ويزرع في مخليتنا الابداع من أجل أن نكون في خدمة الإنسانية جمعاء .

2- فيلم “بابا عزيز”، لا نمل من مشاهدته مرات ومرات:

بعد الانتهاء من مشاهدة  الفيلم الممتع الذي لقي اعجابا كبيرا واستمتاعا متضاعفا كل ما اعدنا مشاهدته …فيلم “بابا عزيز ” للمخرج التونسي ناصر خمير .في الحقيقة ومن رأيي أقول ان “بابا عزيز ” يستحق المشاهدة اكثر من مرة لما يحتويه من قوة سينمائية وإبداع واضح في الرسالة التي ينقلها المخرج.

عندما فرغت من المشاهدة الرابعة للفيلم انتابني شعور بالفخر حقيقة عندما يكون المبدع تونسيا .

بدأ ناصر خمير العمل على الفيلم منذ سنة 1992 الى حين اول عرض له كان سنة  2006 فهو العمل المشترك بين الاتحاد الاوروبي وإيران وتونس .

يمكننا في هذه اللحظة أن نثمن الابداع الذي نجح فيه ناصر خمير والقوة التي تحلى بها الفيلم خاصة في الرسالة التى تضمنته من حب وإقرار بالسلم والتسامح بين الثقافات. يأخذنا ” بابا عزيز ” في رحلة رمزية، جامعة بين الحكمة الصوفية والحكمة الفلسفية، فهذا العمل هو الجزء الثالث من مسيرة صوفية شعرية بدأها في عوالم الصحراء بفيلم اول تحت عنوان “الهائمون ” ومن ثمة الفيلم الثاني تحت عنوان “طوق الحمام الضائع ” إلى أن نصل للجزء الثالث الذي استمتعنا بمشاهدته لما حمله من ابداع فني وحرفية واضحة في فن الإخراج لناصر خمير و للنجاعة في اختيار الشخصيات مع النجاح في اختيار المكان والزمان والأحداث .

3- فيلم “بابا عزيز” رسالة للإنسانية:

اجتاحني شعور غريب بالرغبة  في الكتابة عندما كنت بصدد مشاهدة  الفيلم ” بابا عزيز”، ولكن سرعان ما تشكّلت في ذهني أسئلة مُلغزة في حاجة الى اجابة واضحة.

 ما الذي قد نواه المخرج في نقل الحياة من جانب الطبيعة التى تغزل بها الشعراء وتغنى بها الفنان الى جانب يسكنه الفراغ ولا حياة فيه؟

أي دلالة لهذا الجمع بين الصحراء التي يهيم فيها الدراويش المتصوفة، وهذه الحكمة المتناثرة في أرجاء الكون؟

ألا يبدو أن الحكمة والحقيقة تحتاجان إلى روح مؤمنة بالإنسان حتى تتدفق منابعها في قلب الصحراء؟

 لقد نجح المخرج ناصر خمير في إضفاء حيوية وجمالية على الصحراء لتصبح مكانا يرحب بالحالمين ويحمل المعشوق والحكيم والصوفي الفيلسوف إلى الترحال في ربوع المعرفة ترحالا روحيا. وإنه لجدير بنا أن نقول وأن نؤكد على الفاعلية والجمالية التى رسخت في اذهاننا بعد أن فرغنا من  مشاهدة “بابا عزيز”.

إن هذا الفيلم هو رحلة تجعلنا نتجرد تماما من هويتنا الواقعية او المادية  وان نتعيش الفيلم بهوية روحانية. هذا العمل يعود بنا الى التصوف حقيقة وفكرة التجرد والانحلال. نتذكر تجربة الحلاج وابن عربي.

إن “بابا عزيز” هو حكاية فلسفية كشفت لنا ابداع المخرج في التسويق لمراجع  الثقافة العربية الاسلامية الأصيلة، بشعرها وأغانيها ورقصها وفنها الجميل بدءا من الشرق وصولا الى الغرب.

 لكن السؤال الذي انتابني هو ما حقيقة وما طبيعة الرسالة التى يبعثها هذا الفيلم وما هو الدافع الذي جعل المخرج في حاجة الى ذات متجردة تخبرنا بما ترغب المتصوفة خاصة في اساسا الانحلال والتجرد مع الاكتفاء بالجانب الروحي للحياة ..وللتأكيد على ما نقول نستدل بما قاله ابن عربي ههنا .

قد صار قلبي قابلا كل صوّة

فمزعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف

وألواح توراة ومصحف قران

أدين بدين الحب انى توجهت

ركائبه..فالحب ديني وإيماني

لنا أسوة في بشر هند وأختها

وقيس وليلى ثم مي وغيلان

عند ولوجنا في عمق هذا الفيلم سنجد انه يحمل رسالة عربية من أجل نقلها للغربي وتصحيح الفكرة الخاطئة التي انتشرت على ثقافتنا العربية…تنكشف براعة المخرج أساسا في أخذ المشاهد في رحلة تأملية استثنائية كان أبطالها الجدّ الضرير “الدرويش “مع حفيدته “عشتار “في أعماق الصحراء بحثا عن الحقيقة. يحملنا الفيلم على امتداد الرحلة الى حكايات عديدة لطالما ترسّخت في أذهاننا نحن العرب وكانت محل اعجاب العالم الغربي خاصة منها حكاية ” ألف ليلة وليلة “التي تنقل حكاية الأمير الذي يَود بناء قصر في عمق الصحراء والعاشق الذي فقد حبيبته داخل البئر والفتاة المتنكرة في ثوب الرجال على أمل اللحاق بشقيقها .

بداية الفيلم كانت بالنجاة من العاصفة الرملية لتبدأ الرحلة بلقاء الجد الضرير و”عشتار” لينطلق التشويق برحلتهم في الصحراء لحضور حفل صوفي يقصده كل الدارويش ……كانت حقيقة الجد الذي تأمَل رُوحُه في رحلة تملؤها الصوفية بقصص خيالية يرويها الجدّ لحفيدته عن الملوك والأميال البعيدة بحثا عن الأندلس الجديدة. فالعديد من الحكايات تعود الى عراقة العرب وأصالة ثقافتهم التى خلدها التاريخ .

ان الرائع في اخراج  ناصر خمير هو المزج بين الموسيقي الباكستانية التقليدية و الشعر العربي والطريقة الصوفية في السرد وإتقان التجرد من عالم الدنيا الى عالم الروح او الالهيات ان صدق وصفنا هذا .

يُخبرنا ناصر خمير بقوّة المتصوّف في التعايش في غنى عن البذخ والترف، وأحيانا بعيدا عن الحياة الواقعية أو المادية كلها أشكال ساعدت المخرج على التكامل والمزج الفني الإبداعي لأجل بعث فكرة حقيقية ونقلها في عمل سينمائي،  ليؤكد للعالم أن الاسلام يتقوم بالروحانيات وأن القرآن  ليس على شاكلة محرفة او معلبة او انه يدعو لدين التعصب والانغلاق …انما هو دين التسامح والتعايش السلمي وحب الاختلاف والتثاقف …

علينا ان نؤكد وان نجزم القول بأن الفيلم- بالإضافة إلى رمزية الحكاية- يُمتعنا ويأخذنا في رحلة اكتشاف الجمال الصحراوي للجنوب التونسي من أجل البحث عن الحقيقة ..لكن الحقيقة كانت في ثوب مختلف، خاصة إذا تعلق الامر بعروبتنا وبثقافتنا امام ثقافة الغربي.

إن الفيلم هو قيمة في حد ذاته لما يحمله  من رسائل ايجابية وقيم انسانية كالتسامح والحب والسلم الدائم كلها نقاط تدخل تحت شعار “الإنسانية”. فتغوص السينما في عوالم الإنسان داخل الكون، في شكل جميل وممتع. ويساهم الإنسان الحديث  “فنيّا” إلى إقرار السلم بين الشعوب ونبذ العدوانية بين البشر.

كانت الرحلة مشوقة مع ” بابا عزيز ” خاصة أننا نسعى دائما لإيجاد الحقيقة واكتشاف أنفسنا في ثوب جديد ومن خلفية جديدة. يبدو أننا نطير في السماء ونحلق في الأعالي. …حينما نخرج من روتين اليومي ونعود إلى ذواتنا ونحاول الإنصات إلى أرواحنا، سنعيش تجربة جميلة ملؤها السلام والمحبة.  

خاتمة:

لقد امتع المخرج الحضور بفيلم من أندر ما شاهدت شكلا ومضمونا، وباطنا خاصة فيما يخص الموضوع الاساسي له. نستمتع كلما نقترب من الفن وعندما يكون الفن حاملا لهويتنا العربية و الاكثر من ذلك عندما يكون من اخراج ومن ابداع تونسي. تغمرني السعادة حقيقة مع  كل حدث عشته من الفيلم في وفي كل قيمة تفطنت اليها من وراء هذا العمل السينمائي، الذي  يبعث فينا قيمة اساسية ومحورية ،تنكشف من خلال عمل فني هي قيمة الحياة …

بقلم الطالب طارق الحاج صالح

سنة ثالثة فلسفة بالمعهد العالي للعلوم الانسانية بتونس

 L-univers

L-univers

Journal électronique traitant des affaires étudiantes, de la vie universitaire, des services universitaires et des activités communautaires

Shopping Basket