أنوار تونسية / قراءة حافظ الشتيوي
قراءة تحليلية في “ملحمة صحاري الحب .. لحافظ خليفة
ملحمة وراء ملحمة ونجاح يتلوه نجاح ورحلة البحث اللامتناهي للمخرج حافظ خليفة عن اسمى معاني الحرية والإنسانية ما تزال متواصلة وتشكل هذه الرحلة الوجودية الخيط الدرامي الرابط بين مختلف الملاحم التي قدمها مثل “باب الوطن و”حرية وطن” و”ثورة الصحراء” و”الاولاف” و”السوس “و”خضراء”. وختامها الملحمة الانسانية الدرامية “صحاري الحب” التي قدمها مؤخرا بدعم من الصندوق الوطني للتشجيع على الابداع الأدبي والفني في افتتاح واختتام الدورة 53 للمهرجان الدولي للصحراء بدوز أمام جماهير غفيرة ناهز عددها الخمسين ألف متفرجا والتي ادخلت حيوية ونفَس جديد على مختلف فقرات المهرجان التي تعود عليها الجمهور على امتداد 53 دورة ويمكن القول ان الملحمة ساهمت بشكل كبير في انجاح هذه الدورة واعطاءه اشعاعا اكبر على مستوى الإقبال والتفاعل الجماهيري والتغطية الإعلامية في جميع المواقع الوطنية والدولية .
صحاري الحب في زمن تصحر العواطف
في كل مرة يسعى المخرج حافظ خليفة ان يحيط عمله بجميع اسباب النجاح من حيث الخرافة او الحكاية الملحمية التي ترتبط اساسا بالمكان وبالموروث وبالحميمية باحثا عن الثقافة الفرجوية مبرزا جمالية الموسيقية الصحراوية والأهازيج البدوية في الجنوب و ما تمثله من رافد مهم من روافد الثقافة الوطنية و العربية إضافة إلى اعتماده على رموز الجهة بالجنوب في الكتابة الشعرية أمثال جمال الصليعي وحاتم الغرياني والبشير بن عبد العظيم وفي الموسيقى الدكتور رضا بن منصور
اقتبست ملحمة صحاري الحب من الأثر العالمي (روميو و جولييت) وتم تحويلها في شكل ملحمة موسيقية فرجوية تتحدث عن مشكل القبلية و العنصرية العشائرية بالصحراء مع الدعوة الى الحب و التسامح البشري واجتناب العداوب والثار كي لا يتوارث الاجيال القادمة العداوة والبغضاء.
واعتمد المخرج حافظ خليفة في تناوله للعمل الملحمي على البلاغة الشعرية للبشير بن عبد العظيم في صياغة حكاية هي الأقرب وجوديا وإنسانيا الى حكايته الشخصية حيث ان الشاعر عاش أيضا حكاية الحب الصادق وعاني الأمرين من جراء العصبية القبيلة والتاع بألم الفرقة والتفرقة والإقصاء فصاغ كلمات أشبه بصرخة ألم أو غصة مدفونة في القلب ، صادقة في تعبيراتها ووجدت في هذه الملحمة فرصة الإنعتاق لتروي للناس نتائج مصيبة الثأر التي تعكس رواسب عقليات قديمة أكل عليها الدهر تفرق بين المحبين وتقطع أوصال العائلات وتؤجج نار العداوة لتتوارثها أجيال واجيال .
وانطلاقا من هذه المقاربة الإنسانية تفتق ذهن الموسيقار رضا بن منصور ليغوص في عمق التراث الموسيقي البدوي معتمدا على أغاني وهمهمات وأهازيج وموسيقى تصويرية تتماشى مع الأبعاد الدرامية والانسانية لمختلف المشاهد والصراعات والتطور التصاعدي للاحداث احتفالية كانت ام حربية بين الشقين المتحاربين الشرق الغربي والشرق الشرقي
وبين هذا وذاك بين شاعرية الكلمة وعمقها و جمالية الموسيقى وتناغمها يؤكد في كل مرة حافظ خليفة تشبثه بأوصوله الجنوبية وعشقه اللامتناهي للحياة البدوية الثرية بتراثها ونقائها وبموسيقاها وبموروثها الشعبي ،يتجلى فيها كمثال للفنان التشكيلي الذي يرسم لوحة فنية على الرمال الصحراوية باعتماد سينوغرافيا مشهدية متحديا رمال الصحراء اللامتناهية ومسيطرا على مساحة ساحة حنيش الممتدة اطرافها معتمدا على لوحات من الرقص البدوية و الاهازيج المحلية التي ورثناها من خلال جذورنا البدوية بكل الارياف الصحراوية المتواجدة ببلادنا ,و في شكل مشهدي متحرك يقوم على التحفيز والتشويق والاثارة في لوحات الحرب والإغارة والمبارزة بالسيف وركوض الخيل .
ملحمة شاعرية تماهى معها الجمهور الى حد البكاء
ان أكثر الملاحم اثارة في تاريخ الانسانية بشكل عام وعند العرب بشكل خاص هي الملاحم التي تروي قصص الحب والصراعات القبلية ومشاكلها وتشعباتها والكم الهائل للتقاطعات الدرامية لهذه القصص وهنا تبرز أهمية الصياغة الشعرية وادارة الممثلين والموسيقي التصويرية والاخراج المسرحي ، فعلى امتداد الساعة تقريبا قدم حافظ خليفة عرضا يجمع فيه استعراض مميزات الاجواء التراثية و البدوية في توظيف سينوغرافي متميز كالخيام والزواية والبئر وهم متممات اخراجية ذات دلالة رمزية وركيزة الاساسية للحياة البدوية مذكرا بالاصول النجدية بشبه الجزيرة العربية وإن تغيرت عبر الازمان نتيجة للتمازج الذي عرفته القابائل الهلالية مع متساكني افريقية من الامازيغ و غيرهم
وما زاد في جمالية العرض الاداء الجميل والمتميز من الممثلين الذين شاركوا بالعمل والذين تشعر وكأنهم تلبسوا الشخصيات التي يجسدونها من ناحية التعبير والاداء الجسدي والتفاعل الحركي اذ تراهم كأنهم ينطقون بعيونهم قبل شفاههم ويتحركون بالتفاتاتهم قبل اجسادهم بإحساس رائعٍ بما يؤدون. متناغمٍين مع بعضهم ومع أجواء العرض واداوته منسجمين مع ملائكية العرض الى درجة تماهي الجمهور مع مختلف المشاهد الدرامية الى حد الانفعال والبكاء ، على غرار مواقف بطلي الملحمة لطفي ناجح في دور حبيب فارس فرسان قبيلة الشرق والفارسة اماني فارس زينة فتيات قبيلة الغرب الذان يصطدمان بعقلية الثأر والتناحر بين القبيلتين والتي ادت الى نهاية ماسوية لكل منهما وتفاعل معها الجمهور العريض بالرغم من بعد مسافة الفرجة من المدارج وهنا نعيد مقترحنا بان يتم اعتماد شاشا عرض عملاقة لتجعل من تفاصيل المشاهد اقرب الى الجمهور.
وما زاد في شاعرية المشاهد الدرامية التي قدمها المخرج على الطريقة السينمائية هي مشاهد صراع القبيلتين التي يقودها كل من الممثل القدير صلاح مصدق رئيس قبيلة الشرق والممثل القدير عبد اللطيف بوعلاق رئيس قبيلة الغرب ووقوف شيخ الزاوي الممثل القدير محمد توفيق الخلفاوي الناطق بصوت الحكمة والتوق الى السلم والصلح بطريقته الكاريزماتية الرصينة .
ويتقاطع بينهما في سيرورة الأحداث المشوقة والمتسلسلة هذا الراوي الشيخ الدرويش الذي يدور ويروي حكاية حبيب مباركة لنكتشف في الاخير انه هو حبيب مباركة الذي فقد حبيبته جراء هذا الصراع القبلي المقيت وظل هائما على وجه الارض يعيش المه بين ظلوعه ويروي مأساته للرمال الممتدة وللقبائل المارة وللجمهور الحاضر يروي صحاري حبه بألم وبكاء ونشيج وحرقة
” اني حبيب مباركة.. لخصت فيها قصتي.. رحلة صحاري الحب.. وفجرت فيها غصتي.. حكاية صحاري الحب.. لا من عرف لا من دري.. ولا من فهم لا من وعي..إني حبيب مباركة.. وهذا المكان مكاني.. ويحكي الزمان زماني.. وتحكي صحاري الحب.. أكبر مراحل بيننا.. بوصفي حبيب مباركة..”
ولإعطاء لكل ذي حق حقه فان صحاري الحب هو إفراز إبداعي جمع اهم الطاقات الإبداعية من مختلف الأجيال من ولاية قبلي و من مختلف الاختصاصات اخراجا و توزيعا موسيقيا و أداء و شعرا و تمثيلا وشارك في هذا العمل الى جانب الأسماء السابق ذكرها نجد كل من كمال زهيو وآدم الجبالي وهادية عبيد وحنان شمام ومحمد بوبكر وأحمد الصويعي وشيماء الفرجاني في التمثيل وفي التوضيب الركحي نجد نجيب الرحالي ونبيل بن جابر والصادق منصور ومنصف فريجة واحمد الصويعي اما هندسة الصوت فقد أمنها زياد شقواي وفي الملابس مفيدة مرواني