اأنوار جامعية نيوز / سليم مصطفى بودبوس
لا تزال إشكالية العلاقة بين الأديان وأتباع الأديان تؤرّق الباحثين وترهق السياسيين وصناع القرار خصوصاً في الدول أو الأقاليم متعددة الديانات والطوائف والمذاهب. وهذه الإشكالية المطروحة اليوم بإلحاح ليست بدعاً من القضايا المعقّدة ولا وليدة ثورة الحواسيب ومواقع التواصل الاجتماعي، وإنما هي قديمة قدم التاريخ والأديان، متجددة بتجدد أدوات الحوار والبحث ودواعيه، متغيرة بتقلب موازين القوى.
وطرح هكذا قضايا برهان آخر على بروز نخبة من أتباع الأديان ترفدها إرادة دينية وعلمية وسياسية، ترى الخير كل الخير في اللقاء على قواعد متينة للتعايش من أجل السلام بين أتباع الأديان والمذاهب. وتمثّل مملكة البحرين نموذجا عالميا في توطين هذا اللقاء والحوار بين أتباع الأديان؛ حيث يعيش على أرض المملكة بسلام إضافة إلى غالبيتها المسلمة بقية أتباع الأديان التوحيدية وكذلك أتباع الأديان الأخرى والعديد من المذاهب والطوائف التي تمارس عقائدها في كنف الاحترام المتبادل ودون الإساءة إلى الآخرين.
ولئن كانت مملكة البحرين استثناء جميلا في هذا المجال، فإنّ العديد من الدول لا تزال تعاني من أتون صراع مرير بين أتباع الأديان والطوائف والمذاهب، ولا يزال العالمين الافتراضي والحقيقي مسرحا للمماحكات والسجالات المفيدة حينا والعقيمة أحيانا أخرى. ولعلّ بعض المواقع والحسابات على الشبكة العنكبوتية تسعى مأجورة لإذكاء نار الفتنة بين أتباع الأديان، كما تتداعى بعض المنابر الدينية والثقافية للتشنيعبأيّ مبادرة تسعى إلى التقارب والتآخي بين أتباع الأديان وفي أحسن لأحوال رفضها أو توجيهها وجهة تتلاءم مع زاوية نظرهم التي يعتقدون طبعاً صحتها مقابل خطأ غيرها.
وقد لاذ أصحاب هذا الرأي الإقصائي بالتاريخ القريب والبعيد، مستحضرين منه صوراً تلبّست فيها أيادي أصحاب كل ديانة بأعمال عنف وقتل غير مبرر، كما استندوا إلى النصوص الدينية وتأويلاتها الداعية إلى تقديم قتل المخالف دينياً على الحوار معه ودعوته بالتي هي أحسن. وفات هؤلاء وأولئك أن استحضار هذه الصور المؤلمة واسترجاع مآسي التاريخ لن يزيد الشرخ إلا اتساعاً بين أتباع الأديان.ولكن بالمقابل يستحضر دعاة السلام من كل دينٍ النصوص المقدسة التي تؤكد مناصرتها للسلام ولم يفتهم التمييز المنهجي في التحليل بين مبادئ الأديان وتأويلاتها وتطبيقاتها، هذا إن سلمت بعض النصوص المقدسة من التحريف طبعاً.
إن الجهود الدولية اليوم تبذل حثيثاً وبرعاية الأمم المتحدة والعقلاء والحكماء في حكومات كل الدول، من أجل إحلال السلام والتعايش بين أتباع الأديان؛ إذْ لا تخلو اليوم دولةٌ من تعدد ديني سواءً أكان أصيلاً تاريخياً فيها كحال كثير من دول الشرق الأوسط، مهد الأديان؛ أم طارئاً بحكم عوامل الهجرة. ولقد تعايش أتباع الأديان بسلام في معظم فترات التاريخ؛ فقد عقد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً العهود والمواثيق مع اليهود وتعامل الصحابة والسلف الصالح مع المسيحيين، لا بل مرّ الفاتحون المسلمون على آثار الحضارات غير التوحيدية سلاماً سلاماً، فلم يحطّموا تماثيل الفراعنة ولم يكسروا أو «يفجّروا» المعابد أو الكنائس… بل تركوا هذه الآثار بسلام، شاهدةً على عظم تلك الحضارات والديانات غير التوحيدية وكذلك شاهدة على عظمة تسامح المسلمين الأوائل وإيمانهم بالعيش المشترك مع المختلف دينياً حتى وإن كانت عقيدته وثنية.
إنه من الظلم الكبير للبشرية أن يتناحر أبناؤها على خلفية المعتقدات الدينية النابعة من مصدر واحد، لذلك تنادت الأقلام والأصوات بالدعوة إلى التسامح والتعايش والتصالح والتحاور والتآخي والتقارب والتثاقف والتفاهم والتلاقي والتعاون وهلمّ جراً من المصطلحات المتضامنة والمتناصرة في التعبير عن روح العلاقة بين أتباع الأديان، أمّا العلاقة بين الأديان فتستوجب جهدا علميا يقوم به المختصون في علم الأديان المقارن وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وهو ما قد يساعد على مزيد الدقة في استخدام بعض المصطلحات؛ إذْ أنّ مصطلحاً مثل “تقارب” قد لا يتضمّن الدقّة المتناهية في التعبير عن المطلوب؛لأنّ عقائد هذه الأديان وإن نبعت من معين واحد فهي لا تتقارب لأنّ فيها مسلّمات مقدّسة لا يستطيع مؤمن التنازل عنها، لذا يصبح العمل بروح الآية الكريمة ضرورة «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» (الحجرات، 13) ذلك أن التعارف يعني التشارك في معرفة الآخر المختلف، ولا تكون المعرفة إلا بالتحاور، ولا يكون التحاور إلا باعتراف هذا بذاك لا بإقصائه.
إن التعايش بين أهل الأديان المختلفة ينبغي أن ينبني على أساس متين من الثقة والاحترام المتبادلين، وينطلق من الرغبة في التعاون لخير الإنسانية في المجالات ذات الاهتمام المشترك وفيما يمس حياة الإنسان. إنّ أساس التعايش هو التعاون بين المؤمنين في الأرض لِـما فيه الخير والصلاح للإنسانية جمعاء خطوة في سبيل تحقيق السلام العالمي، ويمكن أن يأخذ هذا التعاون أشكالاً بسيطةً كالتعاون في المحافظة على سلامة البيئة، وفي محاربة الأمراض الخطيرة، وفي القضاء على التفرقة العنصرية، وكذلك محاربة الإلحاد والانحلال الخلقي وتفكّك الأسرة وانحراف الأطفال ومقاومة كل الآفات والأوبئة التي تتهدّد سلامة كيان الفرد والمجتمع أو تضر بالحياة الإنسانية.
إن التقريب والتعايش بين أتباع الأديان إن لم يكن الهدف منه خدمة الأهداف السامية التي تسعى إليها كلّ الأديان، ضاع المعنى الإيجابي منه وصار إلى الدعاية واللجاجة، أقرب منه إلى الصدق والتأثير في حياة الإنسان المعاصر.