وسطيَّة الإسلام سرُّ نفوذه في النَّاس بقلم الدكتور عزالدين بن زغيبة

أنوار جامعية نيوز / الدكتور عزالدين بن زغيبة

الدكتور عزالدين بن زغيبة

من مقاصد الشريعة إقامة مصالح الناس، وتحقيق سعادتهم الدنيوية والأخرويّة. وبناء عليه فإنّ كلّ أمر يُفضي إلى إبطال هذه الغاية، أو الإخلال بها مدفوع عن الشريعة. ولمَّا كان التشدّد والتطرّف في الفهم إلى إحدى الجهتين والتعمّق فيهما ذلك شأنه، فإنّ الشريعة دلّت على رفعهما عن أحكامها وتصرّفاتها.

 وبناءً عليه، كان من بين أعظم المصالح التي أمرت الشريعة المكلّف بتحقيقها هي التزامه في جميع تصرّفاته بالتوسّط والإنصاف، سواء أكان جالباً لمصلحة أم دافعاً لمفسدة، وهو ما ذهب إليه جمهور المفسّرين، في تفسير قوله تعالى: ( إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكّرون)،( النحل: 90 )؛ لأنّ الإفراط في أحدهما هو التفريط في الآخر.وهما وجهان لعملة واحدة ينتهي كل واحد منهما إلى ما هو فساد من جهة الخصوص والعموم.

ولذا بدأت الآية بقوله تعالى: (( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) الذي حقيقته المعادلة والموازنة بين شيئين؛ أي التزام التوسّط بينهما، إلا أنّ أبا بكر بن العربي يعطي لكلمة العدل الواردة في هذه الآية معنى أبعد مما سبق ذكره فيقول: “العدل بين العبد وبين ربّه إيثار حقّه تعالى على حظّ نفسه وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر، وما هو في النهاية إلا إقبال على المصالح المطلوبة شرعاً، واجتناب المفاسد المدفوعة شرعاً”.

إن الشارع الحكيم قد بنى وصف الوسط الذي نَعَتَ به هذه الأمّة، وجعله مناط أهليتها للشهادة على الخلق، على معان متعدّدة: منها السماحة، والتيسير، والتخفيف، ورفع الحرج، وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنّة في الدلالة على عناية الشارع الحكيم بهذه المعاني، عناية بلغت بها حد القطع في الاعتبار. ومن ثمّ فإنك لا تجد حُكْماً من أحكام الشريعة إلا وهو محاط بأحد المعاني السابقة.

لأن الشريعة التي أرادها الله سبحانه وتعالى أن تكون عامة للخلق شاملة لجميع جوانب الحياة وتفاصيلها دائمة في الزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين المؤمنين بها والمعتنقين لها سهلاً وميسوراً، ولا يكون ذلك إلا إذا انتفى عنها الإعنات، فكانت سماحتها أشدّ ملاءمةً للنّفوس.

 وبناءً عليه، فإن استخدام معاني السماحة والتيسير والتخفيف ورفع الحرج في عملية الاجتهاد ليس أمراً جديداً، ولا وصفاً مبتكراً وإنما هو قديم قِدَمَ الاجتهاد نفسه؛ بل هي ملازمة له منذ بزوغ فجره في العهد النبوي؛ فلم يتخلف الصحابة ولا التابعون من بعدهم ولا الأئمة الأعلام ولا كبار الفقهاء ولا المجتهدون في جميع عصور التشريع عن استخدام تلك المعاني بجميع أنواعها في اجتهاداتهم؛ بل كانت المُعوّل عليها غالبا؛ لأنّ نصوص القرآن والسنة النبوية طافحة بالدعوة إلى اعتبارها والنظر إليها.

إنَّ الشريعة التي أساسُها ومبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، لا يمكن أن يقوم فيها اجتهاد على غير اعتبار تلك المعاني ورعايتها في استنباط الأحكام. 

إلا أنّ هناك تخوّفا حقيقيّا لدى العديد من مفكّري الإسلام وعلمائه، من مسألة الوسطيّة المتدفّقة بغزارة على الساحة الإسلامية هذه الأيام، والهالة الإعلامية المحاطة بها. ومما يعزز هذا التخوف هو الانسحاب النسبي والهادئ للحداثيين من مساحات متعددة لصالح الوسطيين، بل نجد بينهما تناغم في بعض المسائل مما ولّد شعوراً قويا بأنّ هناك شيئا ما يطبخ في الكواليس تحت هذا المسمّى المنظور إليه بعين الرعاية والاعتبار في الشرع الكريم.

الدكتور عزالدين بن زغيبة
رئيس قسم الدراسات والنشر والشؤون الخارجية
بمركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي،
مدير تحرير مجلة آفاق الثقافة و التراث.

 L-univers

L-univers

Journal électronique traitant des affaires étudiantes, de la vie universitaire, des services universitaires et des activités communautaires

Shopping Basket