أنوار جامعية نيوز بقلم مراد ساسي

” يوميات عابر حياة ”
إلى روح والدتي … رحمها وأكرم مثواها…
الحياة ليست ما يعيشه احدنا بل ما يتذكره وكيف يتذكره ليرويه.”
غابريال غرسيا ماركيز
كنت كلما داعبت أوراق شجرة أو عشبة تنام في دعة كمن يداعب عذراء في أول عشق يتفتح فيها شبق لا تعرفه بل تتذوق حلاوته لأول مرة ..بداية انتشاء الحواس وسكرة الروح …
كنت شاعرا يقتفي اثر المجاز ’ فأوغل في تفاصيل الحقول ..أشارك نمو الثمر بخجل في الأفنان المعلقة ،وحين انظر إلى الحقول المترامية ،المتعانقة ..المتراصة كأجساد تحضن الدفء واللمسات الرهيفة وتتداعى للمداعبة تطارح الغرام تترا بلا ملل ولا كلل …كنت اشعر بضحكاتها …فارسمها بذهني في مخيلتي ابرع من فوتوغرافي محترف ..فاثمل بالشّوق لمعانقتها ..وأتنفّس ملأ رئتي أكسير الحياة ،معنى الحب والحرية و الانعتاق ’ربما كنت أحس بالتحامي معها ’..هي النبض المتفجر في لحمي وقلبي وعظامي، فيتناهى إليّ همسها بنفس وقع فرحي …هسيس موسيقى مزجت بين لحن الجن والملائكة ودفء لذيذ تماما كنمش الشّمس في أكمام الياسمين …
كنت ارنو الى السّماء ، من صمود تلّة اعرفها وتعرفني’ في أعلى الجبل الصّامت بحكمة الدّهور يتملّكني شعور باذخ أنّي أعزف من ناي الروح، وحي نبوة قادمة ، حلم يسوع صغير ، أحمل في قبضتي صولة الريح ودفئ الشّمس وشراع الاثير ،وأحيانا أشعر أني ملك الفصول ، ملك الينابيع ، وتلك الانهار تجري تحت قدمي بأمري.
لا كدر في حياتي ولا من ينغص سعادتي …كل ذلك حين أتذكره يهزني بشغف إلى تلك الأيام الخوالي البريئة …أيّام صباي وركضي خلف فراشات تلوّح لي بأجنحة الفتنة والغواية وهي تودّع في المنعطف فصل الربيع ’ ويفزعني دويّ الحجل الحزين ..فيثير دهشتي وسروري ’كنت حينها كمن يملك الكون ..بأسره …
أماه كان كل ذلك اصحاح وصيتك على تلك المناديل المزركشة بقبلات وداعك بدموعك الساخنة حين غيابك …
سأعود يوما لأحضن تراب تلك الأماكن التي حفظت عهدها للفصول ولي ’ و التي طالما حلمت بها وهي تعانقني وتلفح وجهي برائحتها العتيقة الأسطورية رائحة أجدادي ’ سلالتي …وسأقتفي اثر صباي في ثنايا تعشق وقع قدمي ولهوي خلف فراشات أنهكها جمال اللون بأزهار الحقل ..فنامت في أحضاني كملائكة تداعبني .’ وربما فرحت بي عصافير الدوري فغنتني منتشية برجوعي بلحن أعدته خصيصا لي …كما عودتني بغدو ورواحي مع أترابي إلى المدرسة ….وكانت تظللني غيمة تتبعني تناغي ظلي ..وأحيانا من عطفها تمطرني فتبللني ، وكأنها تقبلني على ناصيتي بدفئك أمي الذي غادرني ، فاضحك لها ملأ عيناي ..وأوشوش لها عبر الأثير أن شكرا …لدغدغتك اللطيفة …العاشقة …القاتلة …الباعثة فيّ ألف اله.
أماه كان كل ذلك ميراثي ، وحده عزائي ليتمي .وخيبتي .ووحدتي .كان كل ملك ايماني بقلبي، كل وجودي ..ملك يميني لأحفظ سلالة الانسان الذي يخفر فيّ، وسلوى لعذا ب الرّوح …
فقد تعلمت منك أن أعدم كل قواميس القداسة لاحيا لا لأعيش ، وألاّ أكون شهيدا ، ولا قدّيسا ، بل مغامرا، مكتشفا ، وبأن احفر عميقا داخل الجرح المفتوح وامضي لأنتصر على الوجع، على عزلتي ..وبؤسي
ولكن أماه …احرقني بارود ثأر قديم في القلب ، عاودني ذاك الكابوس السيّئ ، فحين يعوي فيّ ذئب الحنين كرصاصة طائشة تمرق في خواء أزقة الذاكرة ..انزوي في سكون دهشتي كمتراس عجوز قديم…
أماه بعد غيابك ،بعد موتك سكنني ظلام رهيب وخوف مهيب ،وتحول القلب كهفا مهجورا تسكنه اشباح نسيان ادفن فيه ما تبريه الذاكرة من نبال الحياة . بل حتى الحياة سرقت مني ….