أنوار جامعية نيوز / الدكتورة أنيسة فخرو- البحرين
ولد المفكر والمصلح (عبد الرحمن الكواكبي) في حلب عام 1854، واغتيل في مصر 1902، وقد أمضى حياته داعيا للنهوض بالأمة العربية، ومقاوما الاحتلال العثماني، درس علوم الفقه والشريعة والطبيعة والأدب، وأصدر كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) قبيل اغتياله بفترة وجيزة، وكنت قد قرأته منذ زمن طويل، لكنه وقع بين يدي وأنا أرتب مكتبتي؛ فأعدت قراءته من جديد، وأيقنت لماذا تم قتل هذا المفكر العظيم بالسم وهو في قمة عطائه؛ فكل حرف وكل كلمة وكل سطر في هذا الكتاب الكنز له قيمة ثمينة جدا.
وليسمح لي القارئ أن أقتطف بعض المقولات لهذا العبقري المبدع الذي يقول:
“الله عادل مطلق لا يظلم أحدا، والمستبدون يتولاهم مستبد، والأحرار يتولاهم أحرار، وهذا صريح معنى الحديث الشريف: (كما تكونوا يولى عليكم)، ما أليق بالأسير في أرض أن يتحول إلى حيث يملك حريته؛ فإن الكلب الطليق خير حياة من الأسد المربوط “.
“كنت أسأل نفسي دوما: لماذا يناصر أغلب رجل الدين المستبد؟ مع أن الدين جاء رسالة إلهية وثورة بشرية ضد الظلم والطغيان، ويأتي الجواب من (الكواكبي) قائلا: “ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، تعطيه مقامًا ذا علاقة مع الله، ويتخذ بطانة من خدمة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله، لتفريق الأمة إلى مذاهب وشيع متعددة تقاوم بعضها بعضا؛ فتتهاتر قوة الأمة ويذهب ريحها؛ فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ “.
“والآيات الكريمات التي تدين الظلم كثيرة جدا، منها قول (بلقيس) ملكة (سبأ) من عرب تُبع تخاطب أشراف قومها: (يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون)، وكما ورد في قصة (موسى) مع فرعون: (قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى) ، أي أفضت مذكراتهم العلنية إلى النزاع؛ فأجروا مذاكرة سرية كما يجري حاليا في مجالس الشورى، وفي قوله – تعالى – : (وأمرهم شورى بينهم)، و (وشاورهم في الأمر) “.
وعن الاستبداد والدين يقول (الكواكبي): “عبيد المستبد من رجال الدين وخدامه يحولون ويحورون ويفسرون الآيات الكريمة على هواهم بما يخدم المستبد؛ ففي الآية الكريمة: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) فسر تجار الدين (أولى الأمر) بأنه المستبد وأعوانه، في حين يُقصد بها أصحاب الرأي والعلم وأشراف القوم، ويأتي تضليل رجال دين المستبد ليُسقطوا عمدا كلمة (منكم) التي تعني من المؤمنين وليس المستبد “.
“العدل أساس الحكم، والآيات تؤكد: (إن الله يأمر بالعدل)، (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، وعاظ السلاطين أفتوا أن لفظ (العدل)، تعني الحكم بما قاله الفقهاء، وليس التساوي بين الناس “.
” (وإذا أردنا أن نهلك قرية أِمرِنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) أِمرِنا وليس أمرنا بالفتحة، أي جعلنا أُمراءها مُترفيها ففسقوا فيها، أي ظلموا أهلها؛ فحق عليهم العذاب “.
” (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، هذه الآية لا تعني سيطرة المسلمين على بعضهم البعض، بل إقامة فئة تسيطر على الحكام كمجالس النواب في الدول المتقدمة “.
” (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) . حرّفوا معنى الآية على ولاية الشهادة دون الولاية العامة، وغيروا مفهوم اللغة، وبدلوا الدين، وطمسوا على العقول “.
“والحديث (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)، يعني أنَّ كلا منكم سلطان ومسئول عن الأمة. كذلك الحديث (الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) ، والتقوى ليست بكثرة العبادة، بل الابتعاد عن رذائل الأعمال اتقاء لعقوبة الله “.
“وعاظ السلاطين يتفننون في تعظيم المستبد في قولهم: (هو ظل الله على الأرض)، ويتناسون الآيات الكريمة: (ألا لعنة الله على الظالمين)، (فلا عدوان إلا على الظالمين)”.
ثلاثون عاما من الجهد والعناء والبحث ليل نهار للعلامة (عبد الرحمن الكواكبي)، بعدها يصدر كتاب (طبائع الاستبداد، ومصارع الاستعباد) الذي يُعد من أهم الكتب منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن، بل أرى أنه كنز لا يقدر بثمن.
يتحدث (الكواكبي) عن علاقة الاستبداد بالأخلاق قائلا: “إفراط الثروة مهلكة للأخلاق، وهذا معنى الآية (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)، الطمع القبيح يخف عند أهل الحكومة العادلة، وفساد الأخلاق يزيد من حب الإسراف “.
“تحصيل الثروة الطائلة في عهد الحكومة العادلة عسير جدا، إلا من طريق المراباة مع الأمم المنحطة أو التجارة التي فيها احتكار أو استعمار “.
“وفي عهد الحكومات المستبدة يصير تحصيل الثروة بالسرقة عن طريق التعدي على الحقوق العامة، وينحط الفرد في أخلاقه إلى ملاءمة المستبد الأعظم وأعوانه بأشياء من التملق وخدمة الشهوات والتجسس ونحو ذلك، وأعظم أبواب الثروة إذا حصل المنتسب على الخفايا والأسرار التي يخاف رجال الاستبداد من ظهورها، ويليه الاتجار بالدين، ثم الملاهي، ثم الربا الفاحش “.
وبعبقرية فذة يقول (الكواكبي): “من طبائع الاستبداد أنه لا يظهر فيه أثر فقر الأمة ظهورا بينا، إلا فجأة قريب قضاء الاستبداد نحبه، ذلك أنَّ الناس يقتصدون في النسل، وتكثر وفياتهم، ويكثر تغربهم، ويبيعون أملاكهم من الأجانب؛ فتكثر النقود بين الأيدي لكنها تشبه نشوة المذبوح”
كل يوم أسمع من يتحسر على الماضي ويسأل: لماذا فسدت الأخلاق؟ ويجيب الكواكبي: “المستبد يرى النفاق سياسة، والتحيل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة، الاستبداد يُفسد الأخلاق؛ لأنه يغيب العدالة الاجتماعية، ويجعل المواطن العادي خانعًا ذلولا له، إما بسبب الحاجة أو بسبب الخوف، أو بسبب الطمع “.
“الاستبداد يجعل طالب الحق فاجرًا، وتارك حقه مطيعًا، والمشتكي المتظلم مفسدًا ومحرِّضًا، والنبيه المدقق ملحدًا، والخامل المسكين صالحًا “.
“الاستبداد يُفقد الشهامة لا الشراسة، ويربي الصغير والجاهل على الطاعة والانقياد، عن خوف وجبانة “.
وبوصف دقيق يقول الكوكبي: “الأخلاق بذرها الوراثة وتربتها وسقياها العلم، والقائمون عليها رجال الحكومة، وعليه تفعل السياسة في أخلاق البشر ما تفعله العناية في إنماء الشجر؛ فإذا بُليت ببستاني لا يعنيه إلا عاجل الاكتساب أفسدها وخربها، وإن صادفت بستانيًّا يهمه بقاؤها وزهورها، قويت وأينعت ثمارها “.
“أسير الاستبداد يعيش كالريش يهب حيث يهب الريح، لا نظام ولا إرادة، والإرادة أم الأخلاق، والأسير أدنى من الحيوان؛ لأنه يتحرك بإرادة غيره، وأقل ما يفعله الاستبداد في أخلاق الناس، حتى الأخيار منهم، الأُلفة على الرياء والنفاق، ويعين الأشرار آمنين من كل تبعة ومسئولية “.
لماذا قال الشيخ (محمد عبده) مقولته: وجدتُ الإسلام في ديار غير المسلمين؟ ولماذا نرى في العالم العربي والإسلامي أخلاقيات بعيدة عن الدين؟ يشخّص (الكواكبي) علاقة الدين بالأخلاق: “الدين بذر جيد إذا صادف مغرسا طيبا نبت ونما، وإن صادف أرضا قاحلة مات وفات، أو صادف أرضا مغراقا هاف الاستبداد بصرها وبصيرتها، وأفسد أخلاقها ودينها حتى صارت لا تعرف للدين معنى غير العبادات. الدين يفيد الترقي الاجتماعي إذا صادف أخلاقا فطرية لم تفسد؛ فينهض كما نهضت الإسلامية بالعروبة”.
رحمك الله أيها (الكواكبي)، لقد عرف المستبد من يختار لكي يغتاله، لكنك ستبقى حيا تؤرق دائما كل الظالمين والمستبدين حتى وأنت في قبرك الذي نقش عليه الشاعر حافظ إبراهيم بيتين يقول فيهما:
“هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقىهنا خير مظلوم خير كاتبِ
قفوا واقرؤوا أم الكتاب وسلموا عليه؛فهذا القبر قبر الكواكبي “.