أنوار جامعية نيوز / سليم مصطفى بودبوس
يظلّ الأزهر الشريف بالقاهرة، وجامع الزيتونة المعمور بتونس، وجامع القرويين بفاس، من المناراتِ الحضارية والقلاع الحصينة للدفاع عن مبادئ الإسلام السمحاء. وهذه الصروح الدينية والعلمية لا بدّ أن تواصل في لعب دورها لا بعقلية المتبع المقلد الجامد، ولكن بعقلية المجتهد والمجدد المتطور على غرار الشخصيات التي اخترنا التعريف بها هنا حيث سنحدّثكم في هذه المقالات عن شخصية من كلّ قلعة علمية من القلاع المذكورة آنفا.
لقد كان جامع الأزهر ولايزال موطن العديد من المجدّدين والمصلحين. ولا ريب أنّ الشيخ محمود شلتوت هو أحد أبرز الشخصيات الإسلامية التي لمعت في سماء مصر والعالم الإسلاميّ، بما توفّرت عليه هذه الشخصيّة من مكانة علميّة وقوة شخصية جعلته رائدًا للإصلاح ومجدّدًا في الأزهر الشريف.
وقد وصلت جهوده في نشر ثقافة التسامح والسلام إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية قاطبة، تحرّكه في ذلك خلفيّة فكرية وفلسفة تستند إلى العقل وسيلةً للإقناع والبرهنة، وتذمّ التقليد الأعمى، ما جعله يتبوّأ مكانةً عالميّةً ويحظى بالتكريم تلو التكريم في العديد من الدول.
وُلد محمود شلتوت في جنوب مصر سنة 1893 في محافظة البحيرة، وحفظ القرآن الكريم وهو صغير، وبدأ الدراسة والتدريس في جامعة الأزهر منذ حداثة سنه حتّى نال إجازة العالميّة سنة 1918. وكانت مسيرته العلمية حافلةً؛ فقد عُيّن مدرّساً بالمعاهد ثمّ بالقسم العالي، ثمّ مدرّسا بأقسام التخصّص، ثمّ وكيلا لكلية الشريعة، ثمّ عضوا في جماعة كبار العلماء، ثمّ شيخا للأزهر سنة 1958.
وكان الشيخ شلتوت عضوًا بمجمع اللغة العربية سنة 1946، وتمّ اختياره عضوًا في الوفد الذي حضر مؤتمر لاهاي للقانون الدولي المقارن سنة 1937، وألقى فيه بحثًا تحت عنوان «المسئولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية»، ونال البحث استحسان أعضاء المؤتمر، فأقرّوا صلاحية الشريعة الإسلامية للتطوّر واعتبروها مصدرًا من مصادر التشريع الحديث، وأنها أصيلة وليست مقتبسةً من غيرها من الشرائع الوضعية ولا متأثرة بها. ونال ببحث المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية عضوية جماعة كبار العلماء.
ويتميّز شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت بمدرسة فكرية خاصة، تقوم على أساس الإحياء والتجديد، ورفض الجمود والتقليد، كما تتميّز مدرسته بالوسطية الإسلامية وبالعقلانية المؤمنة التي آخت بين العقل والنقل، وبين الحكمة والشريعة، كما دعا أيضاً إلى العدالة الاجتماعية وإنصاف المرأة.
وكان الشيخ شلتوت من الذين عملوا على تحديث جامعة الأزهر رغم معارضة المحافظين فيها، وقد توّج سعيه بالنجاح. وفي العام 1958 صار شيخ شيوخ الأزهر، وعمل جاداً على إدخال الإصلاحات، من ذلك إدخال العلوم الحديثة إلى الأزهر، وإنشاء عدة كليات فيه. ولم يقتصر تجديده على نظام التعليم في الأزهر، وإنما دعا أيضاً إلى التجديد الجذري والعميق في العقلية الأزهرية خصوصاً، والعقلية الإسلامية عموماً، كي تكون عصور الازدهار الحضاري هي المرجعية الفكرية لهذه العقلية.
وكانت للشيخ الجليل جهود كبيرة في إطار التسامح والتقريب بين المذاهب؛ فقد عمل الشيخ محمود شلتوت على توحيد كلمة المسلمين ولمّ شملهم والقضاء على الخلافات بين المذاهب بإدخال دراسة المذاهب في الأزهر. وقد كان الشيخ من أعضاء دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، إلى جانب ذلك فقد شجّع الشيخ شلتوت التقارب والحوار بين المسلمين السنة والمسلمين الشيعة، وفي هذا المجال اشتهرت فتوى له باعتبار المذهب الجعفري مذهباً تعبديّاً للمسلمين إلى جانب المذاهب الأربعة للمسلمين السنة.
وكان الشيخ محمود شلتوت واحداً من مؤسسي مجلة «رسالة الإسلام» التي كانت منبراً للاجتهاد والداعمة لوحدة الأمة الإسلامية. وعلى صفحات هذه المجلة تعدّدت وتوالت اجتهادات الشيخ شلتوت في التقريب بين المذاهب الإسلامية الموثقة وبين الشيعة والسنة على وجه الخصوص.
لقد كان الشيخ محمود شلتوت رائداً من رواد النهضة الإسلامية، وواعياً بأننا إذا لم نقدّم الإسلام نموذجاً حضارياً لنهضة الأمة الإسلامية، فإنّ نماذج أخرى يمكن أن تحلّ محلّه، وكثيراً ما تحدّث عن الإسلام باعتباره «دين الفكر»، و«دين العقل»، و«دين العلم»، لذا حذّر من اتباع الظن، ودعا إلى جعل البرهان والحجة أساس الإيمان، واستشهد بآيات قرآنية كثيرة وردت في ذم التقليد والجمود وجري الخلف وراء السلف، دون نظر واستدلال، واعتبر أن «الجمود على آراء المتقدمين، وخُططهم في العلم والمعرفة، وأسلوبهم في البحث والنظر – جِناية على الفطرة البشرية، وسلْبٌ لمزية العقل التي امتاز بها الإنسان، وإهدارٌ لحُجة الله على عباده».
ومن أجلّ أقواله في هذا السياق: «ألا فليَعلم هؤلاء جميعاً أن صدر الحياة، الذي يتَّسع كلَّ يوم وكل ساعة، أصبح غير قابل لضغطٍ تَضيق به رُقعته، ويرجع إلى أغلال الموروثات الأولى».
ولقد حظي الرجل بمكانةٍ عالميةٍ تليق به، ولاقى من الجميع كل الإجلال، بل كان قادة العالم يحترمونه ويرسلون إليه الرسائل، ومنهم الرئيس الفلبيني الذي وضع طائرته الخاصة تحت تصرفه طوال رحلة الشيخ إلى الفلبين، وكذلك الرئيس الجزائري أحمد بن بيلا الذي أرسل إليه ليطمئن على صحته عندما مرض وزاره في منزله… ومنحته أربع دول الدكتوراه الفخرية، كما منحته أكاديمية شيلي درجة الزمالة الفخرية وأهدى له رئيس الكاميرون قلادةً تقديراً لأبحاثه العلمية.